فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء أعلام ورجالات وعوائل

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3379.67
إعلانات


يمضي السّنوار شهيدًا.. وتحيا القضية الفلسطينية

مُقبلاً غير مدبرٍ ارتقيتَ شهيدًا في ساحة الوغى، لم تختبئ تحت الأنفاق هروبًا من طائرات الاحتلال الصهيوني، ولم تفرّ من أرض غزة العزة، مثلما أشاع عنك المرجفون، بل خضت َبنفسك المواجهة، متقدمًا جندك البواسل على الخطوط الأولى للنّار، ومع آخر أنفاسك الطاهرة رميت مُسيّرة العدو بعصاك المباركة، تقذفها بقايا يدٍ مبتورة في جسد مثخن بالحراب، لتبقى رمزًا خالدًا لأسطورة الصمود والمقاومة في كل الظروف.

لم يجرؤ أعداؤك الجبناء على الاقتراب منك، للاشتباك معك وجها لوجه، حتى وأنت مقعد من الجروح الغائرة على أريكة الثبات، وحين فاضت روحك الزكيّة إلى بارئها، لم يجدوا في جعبتك سوى سبحة ومطويات للأذكار النبوية، ليعلم الناس أنك كنت تقوى على مقارعة الصهاينة بإيمانك الربّاني، أما إصبع الحلوى التي عثروا عليها في جيبك، فقد كانت لتطهير فمك من رائحة الجوع الذي قاسمتَه مع شعبك الصامد، وشاهدًا على تواطؤ الأشقاء في حصاركم الآثم.

قائدٌ مغوار مثلك لا يليق بنا أن نبكيه يا يحيى، إلا بكاء الندم على تقصيرنا، أنظمة ونُخبًا وقوى مجتمعية وشعوبًا، في مؤازرتك وإخوانك المجاهدين، طيلة 370 يوم من العدوان البربري، بينما تقفون وحدكم في وجهه، وقد تربّص بكم البعيدُ وخذلكم القريب، لكنكم تظلون صامدين مجردين من كل عُدّة مُكافئة لقوة الاحتلال الإمبريالي، إلا سلاح الإرادة في البقاء والثقة في الله.

يظن جيش الاحتلال أنه في مقدوره وأد المقاومة بتصفية قادتها، وهو بذلك مخطئ تمامًا لجهله بعقيدتها وفكرها والطبيعة النفسية لحاضنتها الشعبية، بل إنه كلما استهدف قائدًا تحوّل إلى رمز مُلهم ومِشعلٍ متقدٍ تسير على دربه التحرري الأجيال، ولنا خير دليل واقعي في قوافل شهداء “حماس” منذ اغتيال الشهيد المؤسّس أحمد ياسين، قبل 21 عامًا إلى القدوة يحيى السّنوار، وسيبقى سجلُّ الشهداء مفتوحًا حتى التحرير الكامل.

ربّما عمّ الحزن قلوب المؤمنين والأحرار من أنصار القضية الفلسطينية، بفقدان البطل الكبير السّنوار، تقديرًا منهم للمصاب الجلل على المستوى الإنساني والنضالي، وحتى شعورًا بالضعف أمام جبروت العدوّ وقهر الطغيان العالمي للأمة، لكنهم على يقين أنّ محنة استشهاده منحة ربانيّة قادمة، وما ذلك بتسلية عاطفية للأفئدة المكلومة من الوجع القاتل، بل هو ما يُنبّئنا به التاريخ البشري للكفاح ضد الاستعمار مهما تغيرت الأزمنة وموازين القوة، لأنّ قواعد السّنن الكونية واحدة.

قد يتسرّب اليأس والجُبن إلى نفوس الآخرين، أمّا أهل القضية فإنهم واثقون من صناعة المستقبل، مهما بلغ بهم من الألم والدمار، ونحن الجزائريين مثلهم تمامًا، لأننّا عشنا التجربة المريرة مع الاحتلال اللعين، حيث نستحضر اليوم، أمام مأساة القطاع المفتوحة على جراح نازفة، جرائم فرنسا ضد السكان العزل في القرى والمداشر، انتقامًا من مقاومة الأمير عبد القادر، رحمه الله، ثم إخوانه المتعاقبين من قادة المقاومات الشعبية، فما زادتهم تلك الوحشية سوى تمسّكٍ بالحرية والإصرار على مقارعة الاستعمار إلى ثورة نوفمبر المجيدة التي تّوِّجت بنصر أسطوري، بذلوا لأجله أزيد من 5 ملايين شهيد خلال 132 سنة.

وعندما اندلعت شرارة الثورة الجزائرية قبل 70 عامًا، شاء الله اصطفاء معظم قادتها من المفجِّرين الأوائل، بين شهيد ومسجون، مع الأشهر والسنوات الأولى، لكنها لم تخمد ولم تفتر، بل تلقّف الراية قادة آخرون واحتضنها الشعب في كل مكان، ليستعر لهيبها الثوري وتتوسّع رقعتها وينتشر صداها المدويّ في كل أرجاء الكون، وهو حال القضية الفلسطينية اليوم بعد “طوفان الأقصى” منذ 7 أكتوبر 2023.

إنّ هذه الملحمة الجديدة ستكون، بلا شكّ، معلم تحوّل تاريخي في مسار التحرر الفلسطيني، حتى لو قرأ البعض مآل الأحداث في الاتجاه الخاطئ، ولن يؤثر سلبًا على مصيرها ارتقاء عقولها المدبِّرة ضمن قافلة الشهداء، بل إنّ تضحيتهم ستكون وقودا آخر لها، إذ تصنع منهم، أفرادًا وفكرةً ومنهجًا، القدوة العملية للأجيال.

ينظر الكثيرون بعين التشاؤم إلى مستقبل القضية المركزية على المدى القريب والمتوسط على الأقل، بالنظر إلى تداعيات “الطوفان” التي هي فوق الاحتمال وحجم الخراب الإسرائيلي والعدوانية الوحشية والانحياز الأمريكي.

لكن على هؤلاء المتشائمين النظر إلى الواقع من زوايا أخرى، ليقفوا على مستوى الورطة التي يتخبّط فيها الكيان الصهيوني حاليًّا على الصعيد الداخلي والدولي، والذي لم يسبق له أن عاش وضعًا شبيها بها منذ تأسيسه الجائر سنة 1948، كما أن عليهم التأمل في إحياء الحق الفلسطيني بوجدان الشعوب عبر المعمورة كلها، وهي مؤشراتٌ ستغير تدريجيًّا إحداثيّات معادلة الصراع الوجودي بين الطرفين.

إن مشكلة البعض في تحليل حدث “الطوفان” العظيم أنهم لم يستوعبوا حتى الآن طبيعة المعركة مع الكيان الصهيوني وآليات إدارتها وآفاق حسمها، حتى أنهم يتعاملون معها بمنطق مباراة كرة قدم تُلعب خلال 90 دقيقة، أي أنهم ينتظرون النتيجة الصفريّة المباشرة للفوز أو الخسارة، بينما معارك التحرير تُبنى بالتراكم النضالي على مدى عقود وأجيال، وقد يطول مداها أكثر في حالات استعمارية استيطانية معقدة مثل الحالة الصهيونية في فلسطين، حيث المهمّ فيها هو عدم التسليم عمليّا للعدوّ بالحق المغتصب وبذْل كل ما هو ممكن لإجلائه مرحليًّا، إلى أن تتهيّأ كل أسباب استرجاع السيادة الكاملة.

وإذا كان من غير المعقول التهوينُ من فداحة الفاتورة الإنسانية التي يبذلها الفلسطينيون اليوم تمسُّكًا بأرضهم ومقدَّسات الأمة، فإنه ينبغي التذكير أنْ لا خيار في طريق الحرية والكرامة سوى المواجهة والتضحية بالأرواح وكل غال ونفيس، أما خُطب السلام الرنانة وشعارات القانون الدولي الزائفة، فكلها سرابٌ خادع إن لم تسندها قوة رادعة فوق الميدان.

يمضي السّنوار شهيدًا.. وتحيا القضية الفلسطينية

عبد الحميد عثماني

2024/10/20


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة