بعد سنة.. غزة الشاهد والشهيد! بقلم: أكرم عطا الله / كاتب فلسطيني
كان عاما يقطر دما، فقد غرقت غزة بالدموع… بحر من الجنون اجتاح إسرائيل التي لديها فائض منه اجتاحها قبل عام يوم السابع من أكتوبر الماضي في أكبر عملية مسلحة تتعرض لها إسرائيل داخل البلدات الإسرائيلية لتصيبها بقدر من الهستيريا أعاد الذاكرة للملاحقة اليهودية في أوروبا التي استقرت على التحالف مع القوى العظمى على احتلال فلسطين وطرد أهلها وإقامة دولة آمنة لليهود فيها، وتلك كانت فكرة إسرائيل التي تعرضت لهزة شديدة قبل عام عندما وجد الإسرائيليون المقاتلين الفلسطينيين في بيوتهم لتتحول الدولة إلى المكان الأخطر على اليهود في العالم.
انفلت الجنون الكامن مسلّحا بالكتب القديمة التي ترى بالفلسطيني زائدا على أرض فلسطين ينبغي طرده أو إبادته، إخراجه من الجغرافيا ومن التاريخ مستمدة في أحد فصولها أسطورة يهوشع بن نون الذي أحرق مدينة أريحا على رؤوس ساكنيها.
كانت سنة قتلت فيها اسرائيل كل شيء في غزة مجازر بالجملة ومذابح وإعدام للبنايات وموت للبنية التحتية بتجريف الطرق والشوارع وشبكات الكهرباء المياه، فقد فعلت كل ما يمكن أن يندرج تحت مسمى الجريمة رقم الشهداء كان أكبر من أن يتصوره العقل في زمن البث المباشر أطفال ونساء وعجائز بنايات تسقط فوق رؤوس ساكنيها المدنيين وتتحول إلى مقابر جماعية لأهلها رائحة الموت تملأ غزة، قال صديقي: كنت أقرأ عن رائحة الموت في القصص والروايات، لكن لأول مرة أعرف ماذا تعني فقد عرفتها عن قرب وسرت كيلومترات طويلة وأنا أغادر من الشمال للجنوب، كانت الرائحة ترافقني على طول الطريق وعلى الجانبين بنايات مهدمة كانت تظهر منها أطراف جثث، ربما يحتاج العالم الكثير كي يعرف حجم الجريمة.
لثلاثة أسابيع، بدأت إسرائيل حربها بقصف جوي شديد أباد معظم المؤسسات والشوارع والمدن السكنية والبنايات المرتفعة التي ستمر الدبابات بجوارها وفقاً لخطة الحرب، هذا، قبل أن تجتاح الدبابات قطاع غزة الصغير، الذي تبلغ مساحته 360 كيلومتر مربع، قامت بتقسيمه إلى قسمين الشمال والجنوب حيث وادي غزة الصغير الذي يفصل بينهما طالبة من سكان الشمال الذي يشمل مدينة غزة وضواحيها وشمالها جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون بالرحيل جنوباً، نحو المحافظة الوسطى وخان يونس ورفح المدينة الجنوبية المحاذية للحدود المصرية.
إسرائيل أكثر دولة في الشرق الأوسط قامت بحروب، ولكنها عاشت على قوة الردع، ردع العرب عن الاقتراب منها، لما تملكه من قوة كبيرة يمكن أن تؤدي إلى دمار كبير، لكنها فوجئت بأن قوة محلية فلسطينية صغيرة قياسا بإمكانيات الدول تقتحمهم وتجردها من هالة القوة التي قدمت نفسها بها كدولة إقليمية مهيمنة، بل وصل بها الأمر أن تقدّم نفسها القوة الوحيدة والقادرة على حماية العرب من إيران، وإذ بها تنكشف في لحظة من اللحظات أنها أعجز عن حماية نفسها من قوى صغيرة، وذلك سبب الهستيريا التي اجتاحتها لترتكب عملية إبادة غير آبهة بالعرب ولا بالمسلمين ولا بالمجتمع الدولي ومؤسساته، بل شنت حرباً على أبرز تلك المؤسسات، وهي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين واعتبرتها مؤسسة إرهابية، ومنها للأمم المتحدة التي هاجمت أمينها العام، واصفة إياها بالمؤسسة غير الأخلاقية، كما قال ممثلها في الأمم المتحدة، وكذلك رئيس وزرائها وكثير من الاتهامات الأخرى.
كان الثمن فادحا من لحم ودم ودموع لم تستطع وقفه كل تلك التكتلات إذ وقف الجميع عاريا أمام القتل المسعور عربا ومسلمين، كان الفلسطيني لديه بعض الأمل في قدرتهم على الضغط على العالم، لكنه اكتشف أنه وقف وحيداً في هذه الحرب، وتلك كانت صدمة لا تقل قسوة عن صدمة الفقد التي توزعت على كل البيوت، ظهرت إسرائيل كدولة مجرمة، لم تستطع المحكمة الدولية رغم الضغوطات تجاهل هذا القتل الجماعي، ولكن بعيدا عن المحاكمات والمؤسسات جميعا، كان الفلسطيني في غزة يموت بكل الطرق التي لم تتواضع إسرائيل في تنوعها.
كان سلاح التجويع غير الأخلاقي واحدا من أسلحة الجنون، ليبدو العالم صغيرا أمام تلك الجريمة حاولت، دول عربية أن تلقي بالطائرات بعض المساعدات، لكن القرار الإسرائيلي كان طاغيا، فقد ارتكبت إسرائيل مجاعة مع سبق الإصرار والترصد في المنطقة الشمالية التي أرادت تهجيرها وإخلاءها، وصلت فيها الناس لطحن علف الحيوانات بطعمه الكريه، دون أن يتمكّن العالم وعلى رأسه الرئيس الأمريكي من إدخال كيس من الدقيق عندما أوقف وزير مالية إسرائيل المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، شحنة دقيق أميركية وبلغت ذروة المجاعة في شهر مارس الماضي، حين أعلنت واشنطن عن إنشاء ميناء عائم لإدخال المساعدات، رغم أن هناك معابر برية وبعد أسابيع كانت تعلن فشل ذلك الميناء لتستمر المجاعة.
في بداية الحرب، كانت إسرائيل ترى أن هناك فرصة توفرت لاقتلاع غزة من جذورها وتهجير سكانها وسط تعاطف دولي ظهر في البدايات، لذا دفعت سكان النصف الشمالي لوادي غزة الذي أقامت به ما عرف بممر نتساريم، دفعتهم للنزوح جنوباً نحو دير البلح وخان يونس، ومنها لجنوب الجنوب، نحو رفح، وبزيادة الضغط عندما تجمع حوالي مليون إنسان في رفح، ما يقارب نصف سكانه البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، غادر القطاع حوالي مائتي ألف عبر معبر رفح، قبل أن تسيطر علي إسرائيل مطلع ماي الماضي وتحتل محور صلاح الدين الذي يربط غزة بمصر.
وبزيادة الضغط على القطاع، كان لديها أمل أن تندفع الكتلة البشرية مع الترويع وتقوم بهدم الحدود المصرية والدخول نحو سيناء، هذا بعد أن فشلت الولايات المتحدة في إقناع مصر بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فبدأت بالضغط عسكريا وإعدام ممكنات الحياة في غزة وبالتجويع لتندفع الناس وحدها دون اتفاق.
غزة، التي شكلت صداعا مزمنا لإسرائيل منذ النكبة، فهي لم تكف عن الكفاح ضد الدولة المحتلة، فور النكبة مع مطلع خمسينيات القرن الماضي، وقد اعتبرت غزة دفينة المشروع الوطني الفلسطيني ومنتجة فصائله ولم يكن من المصادفة أن تتشكل القيادة الأولى لحركة فتح من غزة، وكذلك حركة “حماس” تتشكّل في غزة وحركة الجهاد الإسلامي والانتفاضة الأولى، تلك هي غزة التي شكّلت كابوسا لا يهدأ بالنسبة لإسرائيل إلى الدرجة التي تمنى أحد رؤساء وزرائها إسحاق رابين، أن يصحو يوما ويجد غزة قد ابتلعها البحر.
خلال العام الماضي، استعادت الذاكرة اليهودية تاريخ غزة الطويل، لتعتبرها فرصة لاقتلاعها، فلم يكن الأمر مجرد حرب عسكرية، ولا قتال ضد المقاومة الفلسطينية، بقدر ما هو إعدام لكل ممكنات الحياة في تلك البقعة وجعل غزة غير قابلة للحياة، فقد هدمت كل شيء ودمّرت كل شيء فلا شوارع ولا مدارس ولا جامعات ولا بنية تحتية، حتى في القطاع الصحي، قتلت عددا كبيرا من طواقمه وهدمت مستشفياته.. وفوق كل هذا، أعادت تكديس الناس في شريط ضيق بمنطقة المواصي، بمساحة 15 كيلومتر، ما يعني رحلة عذاب لشعب يعيش بين الخيام في تلك المنطقة الضيقة لتحول المجتمع إلى حالة ناقمة على من يتمرد ضد الاحتلال.
وفي السنة الماضية، كانت إسرائيل تنشر هويتها الأصلية كدولة تنضم إلى كل المجرمين الذين مروا على التاريخ بوجهها الأكثر بشاعة لكن التاريخ لا يتسامح مع المجرمين…!