الذكرى الأولى لطوفان الأقصى ..والمأزق الاستراتيجي للكيان الصهيوني
ألَّف “تيودور هرتزل”(1860م- 1904م) مؤسِّس الحركة الصُّهيونية كتيِّبَه السياسي “الدولة اليهودية” سنة 1895م، وهو يرسم الحلم اليهودي ويسعى إلى حلِّ المسألة اليهودية، والذي تقوم أفكاره على مسلَّماتٍ عنصرية، ومنها: (أنَّ اليهود أنقى أمةٍ في العالم، والدولة اليهودية ستكون حِصنًا للتفوُّق الحضاري في مواجهة همجية الآخرين، وأنه يجب فرض الهيمنة على العرب، من نهر الفرات بالعراق إلى نهر النيل بمصر، ويجب ترحيل غير اليهود من الدولة اليهودية حتى تكون نقيّةً خالصة، وتكون هذه الدولة بمثابة خطِّ الدفاع الأول عن الحضارة الغربية).
وقد أثار أحد “الحاخامات اليهود” الأمريكيين في صحيفة “واشنطن بوست” سنة 1987م زوبعةً مدوِّية عندما قال: “الصُّهيونية تريد أن تعرِّف الشعب اليهودي باعتباره كيانًا قوميًّا… وهذه بدعة”، وهو ما يفضح المشروع السياسي القومي الاستعماري للصُّهيونية، والذي لم يكن أبدًا امتدادًا للعقيدة اليهودية وروحانيتها، على اعتبار أنَّ هدف اليهودية ليس هدفًا سياسيًّا ولا قوميًّا، بل هو هدفٌ روحي، وهو ما يجعل قيام إسرائيل مجرد مشروعٍ استعماري غربي، ذلك أنَّ تحقيق الخيال الإيديولوجي المتلبِّس زُورًا بالنصوص التوراتية المحرَّفة، والاختباء وراء تأويل الديانة اليهودية في قيام إسرائيل لم يكن إلا بالاعتماد على الاستعمار الغربي في نقل الصهيونية من الفكرة إلى الدولة.
إلا أنَّ السياق التاريخي لمعركة طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023 لابد أن يرتفع في قراءته من المستوى التكتيكي في عالم الأشخاص والأشياء إلى المستوى الاستراتيجي في عالم الأفكار والقيم، من أجل الوقوف على المأزق الاستراتيجي للكيان الصهيوني بعد مرور سنةٍ كاملةٍ على هذا المعركة، من دون تحقيق أهدافه المعلنة، رغم اختلال ميزان القوة بشكلٍ واضح لصالحه، مع الدعم الغربي المطلق.
وما حدث في معركة طوفان الأقصى، هو فِعلٌ جهاديٌّ متقن ومبدِعٌ، يمثِّل محطةً فارقةً، وحَدثًا استراتيجيًّا، ولحظةً استثنائيةً، وأداءً معقَّدًا، وهو خارجٌ عن التوقُّع، وعن النمطية التقليدية في الصراع، وسيكتب التاريخُ هذه الملحمة بأحرفٍ من العزِّ والافتخار، وهي تتجاوز في تداعياتها المستقبلية النتائج المادية الآنية.
ومن المؤشرات المفاجئة وغير السَّارة للكيان الصهيوني وللإدارة الأمريكية اليوم، والتي تؤشر على تطورات القضية الفلسطينية لصالح الأمة ومشروع التحرير، هو دخول معاملٍ قويٍّ في الاتجاهات المستقبلية لهذا الصراع الوجودي، وهو قوى المقاومة، وتطور قدراتها العسكرية والاستخباراتية، مثل فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، وذراعها العسكري كتائب الشهيد عز الدين القسام (1987م)، والمقاومة الإسلامية في لبنان، وعلى رأسها حزب الله (1982م)، والمقاومة العراقية، وعلى رأسها “الحشد الشعبي” (2014م)، والمقاومة اليمنية، وعلى رأسها جماعة أنصار الله الحوثي (2004م)، وهو ما صعَّب على الكيان الصهيوني إدارة الصراع، بفقدانه زمام المبادرة في التحكُّم، بسبب هذا الانتقال المروِّع، من الدول التي يسهل رَهْنُها، إلى حركات المقاومة التي يصعب ترويضها، بعد تحييد الجيوش العربية الرسمية من الصراع، عبر المسلسل العبثي للسلام، ومشروع صفقة القرن، واتفاقات ابراهام، والخروج المتتالي للدول من دائرة الصراع.
ما حدث في معركة طوفان الأقصى، هو فِعلٌ جهاديٌّ متقن ومبدِعٌ، يمثِّل محطةً فارقةً، وحَدثًا استراتيجيًّا، ولحظةً استثنائيةً، وأداءً معقَّدًا، وهو خارجٌ عن التوقُّع، وعن النمطية التقليدية في الصراع، وسيكتب التاريخُ هذه الملحمة بأحرفٍ من العزِّ والافتخار، وهي تتجاوز في تداعياتها المستقبلية النتائج المادية الآنية.
وقد كانت هناك عدة عوامل ساعدت على هذا التطور النوعي لهذا الصراع المعقَّد، ومنها: البعد العقائدي لحركات المقاومة، والحاضنة الشعبية الرافضة لهذا الوجود الصهيوني السرطاني الغريب في جسم الأمة، وتنامي الموقف الديني وتفجُّر المخيال الشعبي العربي الإسلامي ضدَّ اليهود، ووصول التيار اليميني القومي المتطرِّف في إسرائيل إلى الحكم، والذي يدفع باتجاه التصعيد في الصراع العدمي، ورفضه لكلِّ الحقوق التاريخية والأممية المشروعة للشعب الفلسطيني.
ومن المؤشرات غير السَّارة كذلك للكيان الصهيوني، هو هذا التناسب المتصاعد بين تطور المقاومة وتجذُّر خيارها، وبين التأييد الدولي المساند لحق الشعب الفلسطيني، وقد جاءت معركة طوفان الأقصى لتعمِّق هذا الجرح الغائر في السردية التاريخية الصهيونية. ومن أظهر المسائل الخلافية الجوهرية بين إسرائيل والعالم، بما في ذلك أمريكا والدول الأوروبية، مسألة “حل الدولتين”، التي ترفضها إسرائيل الآن مطلقًا، فلا تُخفى تلك العلاقة الاستثنائية الخاصة، والتي تلامس الأساطير الدينية المؤسِّسة للكيان الصهيوني في العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، إلا أن تراجع المكانة الدولية لأمريكا، وتراجع المكانة الاستراتيجية للشرق الأوسط في السياسة الخارجية لها، وتصادمها مع الخطر الاستراتيجي الحقيقي، وهو روسيا والصين، وتحوُّل إسرائيل إلى عبءٍ على المنظومة الغربية، واتجاه العالم إلى إنهاء هذه الهيمنة الغربية، والخروج العنيف من الأحادية القطبية سيُحدث ثقبًا أسودَ كبيرًا في جدار هذه العلاقة المقدَّسة بينهما، بسبب إرهاصات نهاية الزمن الأمريكي، وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل في المستقبل.
ذلك أنه وعلى مدار التاريخ يتشكَّل الشعب اليهودي عادةً من عملياتٍ خارجية، والذي تقوده الآن الصهيونية العالمية، والتي هي انعكاسٌ للعملية القومية في التاريخ الأوروبي المعاصر، في محاولةٍ لاشتقاق الحق السياسي والقانوني لإسرائيل من الأساطير الدينية المحرَّفة، بتهجير اليهود، وخاصة من أوروبا بعد محرقة النازية المزعومة، إلى الوطن القومي البديل، وهو أرض الميعاد (فلسطين)، يجعل من مقولة “إسرائيل باقيةٌ إلى الأبد” مجرد وَهْم، لأنها مجرد انعكاسٍ لهذه العمليات الخارجية، وعندما تتغير موازين هذه القوى الخارجية (أمريكا والغرب)، فإنها تتغير أيضًا في الداخل الصُّهيوني، ويكون عنوان هذا المأزق الاستراتيجي هو “زوال إسرائيل”، وهي المؤشرات التي ستصبُّ في المدى المتوسط والبعيد في صالح “قوى المقاومة”، ويُعدُّ مكسبًا استراتيجيًّا لصالحها، مهما كانت خسائرها المادية اليوم في عالم الأشياء في المدى المنظور على صفحة عالم الشَّهادة الخادع.
ويُعدُّ خيار “حل الدولتين” (إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 جوان 1967م، وتقسيم القدس إلى شرقية وغربية)، هو ورطةٌ حقيقيةٌ أمام الكيان الصُّهيوني، لأنَّ رفضه يجعله في مواجهة العالم، لاصطدامه بقرارات الشرعية الدولية، ابتداءً من قرار التقسيم للأمم المتحدة سنة 1948م، والذي يتنافى مع الخرافات الدينية المحرَّفة التي قامت عليها إسرائيل.
وإنَّ القبول به سيؤدي لا محالة إلى حربٍ أهلية داخل إسرائيل، وخاصّة مع صعود التيار اليميني الديني المتطرف، ووصوله إلى الحكم في إسرائيل، بالتحالف مع المجرم “نتنياهو”، والذي يتَّجه بكلِّ تطرُّفٍ إلى مخالفة القرارات الدولية، ومنها: الاستيطان، واحتلال الضفة الغربية، وقطاع غزة، وتهويد القدس، واعتبارها عاصمة موحَّدة لإسرائيل، فالرئيس الإسرائيلي “حاييم هيرتزوغ” نفسُه حذَّر من “انزلاق إسرائيل إلى حربٍ أهلية”، وعدَّد أسبابها، ومنها: الإصرار من تيارٍ إسرائيلي على استمرار الاستيطان، وتهجير الفلسطينيين، وطبيعة الحل مع الفلسطينيين ومع الدول العربية، وكيفية التعاطي مع توجُّهات المجتمع الدولي..”، وهو ما يمثِّل كذلك مأزقًا استراتيجيًّا.
لقد كانت الإرادة الدولية تتَّجه إلى تصفية القضية الفلسطينية من أساسها، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنَّ معركة طوفان الأقصى أعادت القضية إلى سُلَّم أولويات العالم، وجعلتها الملف الساخن والأول على جدول أعمال المجتمع الدولي، وهي من المكاسب الاستراتيجية لهذه المعركة في تعرية هذا الكيان النازي وفضحه أمام العالم، فكان هذا الطوفان المبارك صدمةً للعقل الصهيوني، بالقضاء على التفاؤل بالمستقبل الوجودي لإسرائيل. لقد عاشت إسرائيل وَهْم الانتصارات طيلة نصف قرنٍ من قيامها، إلا أنها بدأت تذوق مرارة الهزائم، وفي كلِّ مرَّةٍ تخرج المقاومة من هذه الحروب أكثرَ قوةٍ وتطوُّر، مما شكَّل مرحلة جديدةً وبأبعادٍ جدِّيةٍ في هذا الصراع الوجودي، وهو ما أشَّر على صورة الانهيار الصهيوني، ضمن هذا المأزق الاستراتيجي.
لقد كسَّرت معركة طوفان الأقصى كلَّ المسلَّمات، وكلَّ قواعد الاشتباك، وكلَّ موازين القوى لصالح القضية الفلسطينية، وقد هشَّمت الصورة المثالية لإسرائيل، والتي يتم تسويقُها دائمًا بأنها متحكِّمة في العالم عبر الصُّهيونية والماسونية والموساد، إلاَّ أنها الآن لا تواجه المقاومة الفلسطينية فقط، بل توحَّدت ضدَّها كلُّ ساحات وجبهات محور المقاومة (الإيرانية والعراقية واللبنانية واليمنية)، وهي حالةٌ غير مسبوقةٍ في تاريخ الصراع.
لقد مثَّلت معركة طوفان الأقصى صدمةً استراتيجية جديدةً وخطيرةً هدَّدت مستقبل إسرائيل؛ فحرَّكت كلَّ القوى الحيَّة في الأمة، وأظهرت بوضوح الانهيار المتسارع لهذا الكيان، وهويخوض معركة البقاء الثانية له منذ 1948م، ويتخبَّط في أطول الحروب في تاريخه (سنة كاملة)، وهو عاجزٌ عن تحقيق أهدافه المعلنة، رغم الدَّعم الغربي المطلق.
الرأي
الذكرى الأولى لطوفان الأقصى ..والمأزق الاستراتيجي للكيان الصهيوني
ناصر حمدادوش
2024/09/25
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.