محطة للتجديد والتغيير 2024-09-10 ل- أ.د. عبد المجيد بيرم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
يُعدّ الاستحقاق الرئاسي محطة ضرورية للانتقال السلس للمسؤوليات والتداول السلمي على الحكم، وقيام مؤسسات الدولة بمهامها الدستورية، وانطلاقة قوية وحذرة في ظل التحديات الإقليمية والدولية؛ لذلك كانت تبعات المسؤولية جسيمة والأمانة ثقيلة، ولا تتأتى هذه الانطلاقة القوية إلّا بتعاون الجميع لتحقيق الأهداف التي يتطلع إليها كل فرد في المجتمع، مع التأكيد على احترام مقومات الشعب الجزائري وانتمائه الحضاري الأصيل وتطلعاته لبناء المستقبل الواعد.
سيكون الشعب الجزائري على موعد مع من يتولى قيادة البلاد لخمس سنوات قادمة، والأمل يحدوه بأن يتحقق في هذه العهدة ما يتطلع إليه المواطنون من العيش الكريم في كنف الحرية، وتمتين الوحدة الوطنية وتكريس العدالة الاجتماعية وترسيخ دولة الحق والقانون ودفع عجلة النمو في شتى المجالات وفتح باب المبادرات وتطويق مصادر الفساد والمفسدين وتعزيز مكانة الجزائر على المستوى الدولي، وخاصة الوقوف مع إخواننا الفلسطينيين في محنتهم لمواجهة الاحتلال الصهيوني الوحشي.
مراعاة سنن الله في تغيير ما بالأنفس
وكل هذا يجعلنا نذكِّر ببعض قواعد التغيير الجوهرية.
إنّ الله عزّ و جلّ أقام هذه الحياة على سنن ثابتة بعضها يتعلق بالاجتماع وبعضها يتعلق بالأنفس، فأي تغيير اجتماعي إنما ينطلق من الإنسان؛ لأنّه هو الأداة التي يتحقق بها التغيير المرتجى، ثم تأتي عوامل أخرى مساعدة كوسائل لنصل إلى المبتغى، ويمثل الفهم الصحيح للدين الإسلامي أكبر عامل لتحقيق الوثبة الحضارية للمجتمعات الإسلامية بما يملكه من مقومات من شأنها أن تغير ما بالأنفس، فالإسلام هو الانسان في روحانيته وفي تساميه وفي تطلعه إلى تحقيق النموذج النبوي على الأرض. ومحمد عليه الصلاة والسلام وهو قدوة المسلمين الأولى ومثال الانسان الكامل عمد إلى إصلاح الفرد من داخله ثم إصلاح المجتمع، وقام بالإبقاء على ما كان نافعا وصالحا وتعديل ما يحتاج إلى تعديل والبناء عليه.
وإنّنا لا نمل من تكرار القول بأنّ عملية التغيير والانجاز، والتحسين إنّما يصنعه الإنسان وعليه يبقى الاهتمام بالإنسان فكرا وسلوكا ووعيا على رأس الأولويات وتبقى العناية بالتربية والتعليم هي العمود الفقري لبناء مستقبل آمن ومزدهر.
ومنه فإنّ بعض التصورات النظرية التي ترى ضرورة التغيير الكلي، والبناء من جديد، وتجاوز كل ما تحقق من منجزات لا تفتقر إلى الواقعية فحسب، وإنما تتعارض أيضا مع المنهج القرآني والنبوي.
تثمين الإيجابيات وتدارك النقائص
إنّه من تمام الانصاف تثمين الإيجابيات التي تحققت، والدعوة إلى التعاون لاستدراك النقائص، وعدم تهويل أو تضخيم السلبيات لأنّ هذا يضفي صورة قاتمة لا تعكس الحقيقة، فضلا عن آثارها السلبية على الناس، فقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم من يقول: فسد الناس فهو أفسدهم –بالنصب وبالرفع –،»، إمّا أنّه هو سبب فسادهم ، أو هو أكثرهم فسادا، لذلك فإنّ اشاعة الصور المظلمة والقاتمة أو تضخيم الأجواء السلبية يبعث على اليأس والقنوط بحيث تشل المرء عن التفكير والحركة وتدعوه للاستسلام والخنوع، وتسلب من الانسان الفاعلية التي بها يستطيع أن ينجز، أو تجعله ينسحب من المجتمع وهو فيه، فإنّ هذا يتنافى مع ما يريده الإسلام من المسلم، وحسبنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن أستطاع أن يغرسها فليغرسها» إنّها دعوة قوية للاجتهاد والتفاؤل والعمل …..
وبلادنا حققت بعض الإنجازات في مجالات شتى، ونطمح دائما للمزيد، لكن كل ما سلف ذكره لا ينفي وجود سلبيات ونقائص تسببت في حالة الإحباط التي تعيشها فئات كثيرة من المجتمع وهي حالة لا تخطئها عين، ومن أهم مظاهرها هجرة الأدمغة إلى بيئات ترى أنها توفر لها مجالات رحبة للإنجاز والإبداع فمن المؤلم أن تصبح الجزائر مشتلة للعقول التي تصنع ازدهار وأمجاد أمم أخرى بسبب غياب المناخ المناسب لإنتاج المعرفة، والتقدير الواجب لأهل العلم أيا كان المجال الذي ينتمون إليه.
التدرج في التغيير
إنّه من الخطأ البيّن اختزال مسألة التغيير في دائرة واحدة، واعتبارها هي المفتاح لكل القضايا والاشكالات والصعوبات بحيث إذا عولجت زالت كل العوائق، فالعمل على توسيع دائرة الخير والصلاح في الأمة، وتضييق دائرة الفساد والسوء من المقاصد الشرعية المعتبرة في الشرع، التي يتعين على كل متطلع للتغيير ومحب للخير ورفعة شأن دينه وقومه وبلده الانخراط فيه. وهذا لا يمنع من التدرج في المعالجة، والبدء ببعض المجالات التي توفرت فيها الشروط وانتفت فيها الموانع، وتحقق فيها هامش الحركة، ولن يعدم المرء أعوانا على الخير والنفع في كل المستويات.
مؤشرات
و في الأخير فإنّ الانتخابات وإن كانت وسيلة للاختيار الحر لمن يتولى المسؤولية على الوطن فإنها من ناحية أخرى تعتبر مقياسا لمدى تفاعل الأمة مع الأحداث ومعرفة منسوب الوعي الاجتماعي بالقضايا ذات الشأن العام لدى المواطنين، ومن ثم ينبغي أن يُقرَأ المؤشر قراءة سلمية وموضوعية، فإذا كان المؤشر إيجابيا، فهذا دليل يبعث على الطمأنينة على مستقبل البلاد ، وإن كان المؤشر دون المأمول وجب تنبيه النّاس إلى أهمية الانخراط في المشاريع ذات النفع العام واستنهاض الهمم، وهل هناك ما هو أولى من الوطن واستقراره وحريته ورفعته؟؟
كما أنّه من الضروري توفير الأجواء الصالحة والشروط الصحيحة والضمانات المطمئنة وإزالة الريب، للحؤول دون أسباب الإحباط، وبث مناخ التفاؤل والأمل لتحقيق المصداقية، فإنّ المتربصين كُثُر، والمناوئين بالمرصاد، والشامتين في انتظار.
وفي الختام نضرع إلى الله تعالى بالدعاء لمن يتولى رئاسة الجزائر أن يمدّه بعونه وتوفيقه ويسدّد خطاه ويحيطه بالبطانة الصالحة الناصحة ويجعله في مستوى ثقة الشعب الجزائري في تحقيق طموحاته وتطلعاته في العيش الكريم وفي تحقيق العدالة الاجتماعية ودولة الحق والقانون يتساوى فيها الجميع.