مناسبات ومحطات للتأكيد على الثوابت والمشتركات/ أ.د. عبد المجيد بيرم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
تزخر الجزائر بإرث تاريخي ثري يذكِّر بملاحم صنعت أمجاد تاريخنا وخلّدت بطولات الشهداء والمجاهدين، فأصبحت ذكرى يُحتفى بها، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها؛ لأنّها وسام فخر للأجيال تستلهم منها المعاني والقيم، فيوم 20 أوت خلّد مناسبتين مهمتين في مسار الثورة التحريرية المباركة، إحداهما: أحداث هجومات الشمال القسنطيني التي جاءت لتضخ الوقود في شرارة ثورة نوفمبر، وثانيهما: مؤتمر الصومام الذي جاء لضبط المسار التنظيمي للثورة سياسيا وعسكريا، فكانت هذه المناسبة المزدوجة يوم المجاهد، تخليدا لهما، وتذكيرا للخلف والأجيال بتضحيات الآباء والأجداد
وإنّه من تمام الوفاء لتلك التضحيات المحافظة على المكتسبات، وصيانتها والدفاع عنها، والوقوف في وجه من يريد تشويه تاريخنا أو بخس جهود شهدائنا ومجاهدينا، وهي مسؤولية مشتركة، يضطلع بها كل جزائري غيور على بلده، في أي موقع كان، وهذا لا يتحقق إلاّ بإعداد الفرد وتوعيته بالقيم والمعاني التي أنهضت جيل التحرير للقيام بالواجب الوطني تجاه بلاده.
لقد جعلت الحركة الإصلاحية التي أسسها العلامة عبد الحميد ابن باديس –رحمه الله- من أولوياتها غرس قيم الوطنية في نفوس الجزائريين، فكان أن اجترحت لها شعارا ثلاثيا سنة 1931ميلادية، ينص أحد أضلعه على أنّ «الجزائر وطننا»، وقام ابن باديس قبل ذلك بسنوات – في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، بوضع شعار لمجلته الشهاب يبيّن عمق هذا المنحى في العمل الإصلاحي، ويؤكد على الركن القوي الذي يأوي إليه كل من يصبو إلى استرجاع ما سُلِبَ منه، أو تقوية أسس بنائه، إنه الحق : «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء».
وشمّر رجال الإصلاح ومن آمن بفكرتهم، لإنجاز هذه المهمة وغرس هذه القيم فكان عمل الحركة الإصلاحية هو الاعداد التوعوي لتعميق مفهوم الوطنية بأبعادها الأساسية في نفوس الجزائريين، وتوطين نفوس الناشئة على أنّ الأولويّة في كل شيء هي للوطن في ظل هذا الاستعمار الذي عمل على إلحاق الجزائر بفرنسا، تمهيدا لمواجهته بقوة السلاح.
القدوة المطلوبة
واليوم وقد تحقق المراد بعزم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا مهجهم وأرواحهم رخيصة لهذا الوطن، فإنّ غرس هذه المعاني في نفوس الناشئة تكون بالأفعال قبل الأقوال، وتتجسد في البيت، والمدرسة، وتُرى في سلوكيات الناس، وفي نزاهة المسؤول، قبل أن تقرأ في الجرائد، وتقرر في المقررات الدراسية، فيقدم الفرد كلّ من موقعه أحسن ما عنده، ويسهم بسلوكه وعمله في توريث الأجيال القيم الحقيقية التي تبني الأساس لمجتمع قوي، يقوم على الحق والعدل، والإتقان، والإحسان في القول والعمل. فتتواصل الحلقات بين الأجيال، ويتحقق فينا قول رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي رواه عبد الله بن عمر: «ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على النّاس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم….» متفق عليه.
والراعي هو كما قال العلماء: الحافظ، المؤتمن الملتزم بصلاح ما قام عليه، فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه، فإذا تحقق فينا هذا الوصف حكّاما ومحكومين نكون قد صُنّا أمانة الشهداء والمجاهدين في الحفاظ على وحدة الوطن وعزته، واعلاء مكانة الدّين وقيمه، وصيانة لغته وموروثه الثقافي.
استحقاق وطني
وتتزامن هذه المناسبة بمحطة مفصلية وهي الاستحقاق الرئاسي واختيار من يتولى عبء المسؤولية في إدارة البلاد، وإنّها ‘ لَأَمانة‘ كما جاء به الحديث النبوي، وهي محطة ضرورية لكل بلد ينشد الاستقرار ويتطلع إلى تحقيق التنمية الشاملة لمواطنيه وتثبيت أركان الدولة وتقويتها، ففي العملية الانتخابية تداول على المسؤولية، وانتقال سلس للحكم من جيل إلى جيل، وذلك يتمّ بحسن اختيار الأكفأ والأقدر على الاضطلاع بالمسؤولية الكبرى في إدارة البلاد، ومواصلة ما تم إنجازه وتحقيقه في المجالات المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، والعمل على استدراك النقائص وتطويق السلبيات ومحاصرة الفساد والمفسدين.
وإننا نهيب بمن سيتولى إدارة البلاد أن يسهر على صيانة ثوابت الشعب الجزائري في دينه ووحدته وأن يقف سدا منيعا في وجه كل المحاولات التي تهدف إلى زرع الفتنة بين الجزائريين وتقسيمهم عرقيا ومذهبيا ومناطقيا، أو كل من يحاول المساس بالوحدة الوطنية فإنّ: ‘ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان‘، و أن يحافظ على مكتسبات الأمة، وثرواتها من النهب، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويقوم بتحرير المبادرات، ويجعل المنظومة التربوية تعكس الانتماء الحضاري للشعب الجزائري الأصيل مع الانفتاح على كل جديد نافع من مبتكرات العصر.
المشروع الوطني الجامع
إنّ ما يشهده العالم من تغيرات وما أفرزه طوفان الأقصى من تداعيات، والتحديات الإقليمية التي تواجهنا على حدودنا في الغرب والجنوب والشرق، وفي ظل تضارب مصالح الدول الكبرى وتصادم مطامعها، كل هذا يعزز قناعتنا بأنّ أولى الأولويات هو تقوية الجبهة الداخلية، وتمتينها، للوقوف صفا واحدا لمواجهة هذه المخاطر، وتجاوز كل ما من شأنه أن يحدث شرخا في الصف الوطني، حتى لا ندع للمتربصين منفذا يتسللون منه، ولا يتمّ ذلك إلا بما سبق التنبيه عليه من الحرص على تجسيد قيم الحق والعدل، وتولية الأكفأ والأجدر بالمسؤوليات المختلفة؛ وقد وصف القرآن الكريم الرجل المناسب للاضطلاع بالمسؤوليات الجسام بـ «القوي، الأمين»، فهو الكفيل بتحقيق التحام الشعب الجزائري في مشروع وطني موحد، وتفويت الفرصة على الأعداء الذين يتوجسون من الجزائر، خاصة بعد مواقفها الصريحة الواضحة في مجلس الأمن، وفي المحافل الدولية المختلفة، تجاه ما يقع في فلسطين وفي غزة، ومن القضايا العادلة في العالم.
مناسبات ومحطات للتأكيد على الثوابت والمشتركات
المطور أرسل بريدا إلكترونيا2024-08-27
أ.د. عبد المجيد بيرم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.