ما الذي نريده من أئمّتنا؟! ل- سلطان بركاني
مدح الله –العليّ العظيم- في كتابه الكريم عباده المؤمنين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه؛ يُصغون للمواعظ والدّروس والنّصائح، فيبحثون عن أحسن ما فيها فيتبعونه ويعملون به وينشرونه في النّاس، ويغضّون أسماعهم ويمسكون ألسنتهم عمّا فيها من خلل وزلل وتقصير تقتضيه طبيعة البشر، فلا يروونه ولا يهتمّون به بل يتغاضون عنه ويدفنونه.. مدح الله عباده هؤلاء الذين ينشرون الخير والنّفع ويدفنون الخطأ والزّلل، ووصفهم بأنّهم أهل الهداية وأصحاب العقول الراجحة، بل وبشّرهم بالحسنى، فقال جلّ من قائل: ((فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)).
إلى وقت قريب، كان عباد الله المسلمون يسمعون كلام العلماء من التلفاز أو الراديو بكلّ توقير واحترام، فيرويه بعضهم لبعض، ويقول الواحد منهم لأخيه: سمعتُ العلماء يقولون كذا وكذا، ويردّ الآخر: الله يبارك الله يبارك.. وكانوا يسارعون إلى المساجد ليسمعوا الخطب والمواعظ والدروس، فيجلسون وآذانهم صاغية، وأعينهم بوجه الخطيب أو المدرّس معلّقة، وقلوبهم تتلقف كلماته، فيخرجون ليرووا ما سمعوه لأهليهم ورفاقهم، حتى وإن لم يستطع الواحد منهم العمل ببعض ما سمعه، فإنّه يعترف بالتقصير، ويبدي أسفه لحاله، ويطأطئ رأسه خجلا من ذلك.
لكنْ في السّنوات الأخيرة، ومع شيوع مواقع التواصل الاجتماعي، وطغيان الأهواء وتشعّب الآراء واعتداد كلّ أحد برأيه ورضوخه لهواه، تبدّلت الحال، وأصبح بعض عباد الله المسلمين يحضرون الخطب والدروس ويسمعون كلام العلماء والدعاة والمصلحين، ليتتبّعوا ما فيها من نقص وخطأ فيتحدّثوا به.. حتّى إنّ الواحد منهم لو سمع 30 فائدة في كلمة أو درس أو خطبة، ثمّ سمع عبارة لم تعجبه أو لم يفهمها ولم يحط بها علما، تجده ينسى كلّ ما في الدّرس من خير ويركّز بذهنه مع تلك العبارة التي لم يستوعبها أو زلّ فيها العالم أو الدّاعية أو الخطيب.. بل ومن عباد الله، من يجد متعته في نقض كلام العلماء والدّعاة والأئمّة بضرب الأمثال المعارِضة، أو الاستدلال بالشاذّ لنقض الأصل.
لقد أضحى كثير من المسلمين يردّدون ما يلقيه الشّيطان على أسماعهم وقلوبهم من كلمات يفسد بها عليهم ما يسمعون من خير. . تماما كما قال الله تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)).. يخرجون من المساجد فيقول قائلهم: “عن أيّ شيء كان الإمام يتحدّث؟! لم أفهم من كلامه شيئا. إنّه –كالعادة- يتكلّم بألغازه وأحجياته”. وربّما ينسب إلى الإمام كلاما لم يقله ولم ينطق به، وربّما يتعسّف في معارضة كلام الإمام بظنّه وهواه ورأيه.
شهوة الانتقاد والاعتراض!
كثير من الناس يريدون للعالم والداعية والإمام أن يقول كل شيء في كل مرة؛ إذا تكلم الإمام –مثلا- عن عقوق الأبناء لوالدِيهم، إذ ببعض الشّباب يقولون: ولماذا لا يتكلّم عن الآباء الذين يضيّعون ذريتهم وعن أولئك الذين يقهرون أبناءهم ويحقرونهم ويحرمونهم؟! وإذا تحدّث الإمام عن إضاعة الوالدين لأبنائهم، إذ ببعض الآباء يقول: ولماذا لا يتكلّم الإمام عن الأبناء الذين يسمعون كلام زوجاتهم وأصدقائهم ولا يسمعون كلام والديهم؟! إذا تكلم الإمام عن تسلّط الزوجات وخروجهنّ عن طاعة أزواجهنّ، إذ ببعض النّساء وحتّى بعض الرّجال يقولون: ولماذا لا يتكلّم عن الأزواج الذين يضيعون نساءهم ويقهرونهنّ ويظلمونهنّ؟! وإذا تحدّث عن الأزواج الذين تخلّوا عن قوامتهم وضيّعوا زوجاتهم، إذ ببعض الرّجال يقولون: ولماذا لا يتكلّم عن المسؤولين الذين يوظّفون النساء ويتركون الرّجال يذلّون للنّساء؟!
إذا تحدّث الإمام ليسلّي أصحاب الأمراض والابتلاءات ويذكّرهم بأجر الصابرين المحتسبين، إذ ببعض النّاس يقولون: ولماذا لا يخاطب الأغنياء ويرغّبهم في إعانة الفقراء؟! وإذا تحدّث الإمام إلى الفقير المحروم ببعض الكلمات ليحثّه على الصّبر مع المطالبة بحقوقه والسعي لتحصيلها، قال بعض النّاس: ولماذا لا يتكلّم عن المسؤولين الذين يسرقون حقوق الفقراء؟ وإذا تكلّم عن المسؤولين قال بعض النّاس: الشعب يسرق بعضه بعضا ويظلم بعضه بعضا: التاجر يسرق، الموظّف يسرق، والحارس يسرق، يسرقون الماء والكهرباء والغاز. والإمام يذهب بعيدا ويتكلّم عن المسؤولين الذين لا يسمعون كلامه ولا يسمعون به!
إذا كان الإمام لا يتكلّم عن المسؤولين، يقال عنه: “خوّاف” يحسن الحديث عن الضعفاء فقط! وإذا تحدّث عن المسؤولين، ولم يمسّه سوء، قال بعض النّاس: هذا الشيخ يملك وساطات قوية، أو إنّه يتكلّم رياءً وسمعة! وإذا تكلّم الإمام ولحق به أذى، قال بعض النّاس: ولماذا يتكلّم فيما لا يعنيه؟! يظنّ بأنّه هو وحده الفطن الواعي! من سيسمع به الآن؟!
إذا تحدّث الإمام عن التجار الذين يغشّون في البيع، قال بعض التجّار: يرى ما يفعله صغار التجار ولا يرى ما يفعله كبارهم! وإذا تحدّث عن المشترين، احتجّ بعضهم وقال: التجار أنهكوا جيوبنا وامتصّوا دماءنا، والإمام يتحدّث عن أخطاء المشترين!
إذا اقترب الإمام من الواقع وتكلّم عن المشاكل والأخطاء التي يعانيها الناس يوميا، قال بعضهم: هذا الإمام جريء يجرح النّاس ويُحرجهم.. وإذا تكلّم في السيرة والتاريخ والآخرة والجنّة والنّار، قالوا: الإمام لا يعيش واقع الناس، الواقع في واد وهو في واد آخر. يا شيخ تحدّث لنا عن واقعنا الذي أرهقنا وعن مشاكلنا التي جعلت الأخ لا يكلّم أخاه والجار لا يسلّم على جاره!
إذا تكلّم الإمام عن الجنّة، قال بعض النّاس: الناس يأكلون الحرام ويسرقون ويعاقرون الخمر ويتعاطون المخدّرات في كلّ شارع، والإمام يحدّثهم عن الجنّة حتّى يطمئنّوا ويواصلوا سيرهم في طريق الضّياع.. وعندما يتكلّم الإمام عن النّار يقول بعض النّاس: لماذا لا يتكلّم هذا الإمام عن الجنّة، نحن نعيش جهنّم في الدّنيا وحقوقنا كلّها مضيّعة، وهو يزيد بؤسنا بالحديث عن جهنم التي في الآخرة!
يتكلّم الإمام في دروس عديدة عن قطيعة الأرحام وسوء الجوار وعن العقوق والمشاكل الزوجية والأسرية، حتى يكادَ الناس يملّون.. ثمّ إذا تكلّم في موضوع لا يعجب بعض النّاس سمعتهم يقولون: لماذا لا يتكلّم عن المشاكل والخصومات التي استشرت بين الناس؟!
تجد أحدهم يأتي الجمعة دقائق معدودة قبل إقامة الصّلاة، لا يحضر درسا ولا خطبة، ومع ذلك يعود إلى هاتفه ليكتب: “لماذا لا يتحدّث الأئمّة في هذا الموضوع وذاك؟”! أو يجلس هذا المتأخّر في الحضور إلى الجمعة في المقهى ويضع رِجلا على رجل ليقول لمن حوله: لماذا لا يتكلّم الإمام في هذه المشكلة أو تلك؟!
إذا تكلّم الإمام في أحكام الطهارة والصّلاة، قال بعض النّاس: المجتمع يسرق بعضه بعضا، ويخاصم بعضه بعضا على الأراضي والميراث ويجرّ بعضهم بعضها إلى المحاكم ويقتل القريب منهم قريبه لأجل أرض أو مال، والشيخ لا يخرج حديثه من المراحيض وأماكن الوضوء! أو يقول بعضهم: الأمة ضائعة وفلسطين بيعت بثمن بخس والحكام خانوا القدس، وإمامنا لا شغل له إلا حديث الوضوء والطهارة! وإذا تكلم الإمام عن قضايا الأمّة وعن فلسطين، وجد من يعترض قائلا: بعض الناس لا يحسنون الوضوء ولا التيمّم ولا ترقيع الصلاة، والشيخ يكلّمنا في السياسة وعن فلسطين!
إنّه لأمر مؤسف أن تكون هذه حال كثير من المسلمين في هذا الزّمان، ينطق الشيطان على ألسنتهم، ويوحي إليهم زخرف القول غرورا، فيردّدون وحي الشّيطان ويكرّرون كلامه، ويقومون بعمله في الصدّ عن الانتفاع بالخطب والدروس والمواعظ. وقد تنبّأ الحبيب المصطفى –صلـى الله عليه وسلم- بهذا حينما قال: “سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ؛ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِه؛ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَه”!
تديّن مغشوش يُغري معتنقيه بانتقاد الأئمّة والدّعاة!
ما سبق الحديث عنه، بلية، وهناك بلية أخرى في ظاهرة خطيرة انتشرت مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعيّ، هي ظاهرة هؤلاء الشّباب الذين فهموا التديّن خطأ، وظنّوه في انتقاد أئمّة المساجد والاعتراض على أقوال العلماء والدّعاة الذين لا يعجبونهم أو لا ينتمون إلى طائفتهم، ويظنّ الواحد من هؤلاء الشّباب أنّ انتقاد الأئمّة والدعاة والعلماء على مواقع التواصل فخر كبير، ودليل على العلم والوعي.. تجد الواحد منهم ترك الدراسة في مراحل متقدّمة، ولا يعرف أبجديات اللغة فضلا عن مفاتيح العلم وقواعده، ومع ذلك لا يجد أيّ حرج في انتقاد أئمّةٍ ودعاة معروفٍ عنهم أنّهم كانوا متفوّقين في دراستهم، وأفنوا عقودا من أعمارهم في طلب العلم.. وقد تنبّأ النبيّ –صلى ـالله عليه وسلم- بهذا أيضا حينما قال: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدَّق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.. قيل: وما الرويبضة؟ قال: “الرّجل التافه يتكلم في أمر العامة”، وفي لفظ عند أحمد “الْفُوَيْسِق يتكلّم في أمر العامّة”، وفي رواية: “الرجل السّفيه يتكلم في أمر العامة”.
مسلك خطير.. لكن لماذا؟
خطورة هذا المسلك والذي قبله، تكمن في أنّ النّفس البشرية يعجبها انتقاد المصلحين والتفتيش عن أخطائهم وعيوبهم ونقائصهم، حتّى تجد العذر لتقصيرها في دينها وتقول لصاحبها: إذا كان العالم والداعية والإمام فيه كلّ هذا، فأنا معذور في فعل كلّ شيء!!! ولذلك كثير من النّاس إذا وجدوا من ينقل الأخبار الغريبة والإشاعات الكاذبة عن العلماء والدّعاة والأئمّة يسارعون إلى تصديقه وتناقل كلامه من دون تبيّن أو تمحيص، ويقولون: أنت ترى العلماء والأئمّة ما الذي يفعلون! والله ما بقي هناك أئمة لا علماء!
والإعلام العلماني، خاصّة قنوات وصحف الإثارة، وجدت ضالتها في هذه الظّاهرة، فعملت على الترويج لبضاعتها باللجوء إلى العناوين التي تجلب الانتباه؛ تنظر في الكشك وتطالع العناوين الكبيرة على الجرائد، فترى: “إمام مسجد يسرق”، “معلم قرآن يفعل”، “محجّبة يُقبض عليها”… وهكذا في البرامج الاجتماعية التي تقدّمها قنوات الإثارة تسمع العجب العجاب. لماذا؟ لأنّ الناس يستأنسون بهذه العناوين وتعجبهم، فنفوسهم ومعها الشيطان تقول لهم: إذا كان أهل الدين يفعلون كلّ هذا فلا لوم عليكم أنتم أن تفعلوا ما تشاؤون!
دعوة للمراجعة والتّصحيح
علماء الأمّة ودعاتها وأئمّتها بشر يصيبون ويخطئون.. ومن يريد الله والدّار الآخرة يتّبع أحسن القول ويغضّ عن سيّئه، ولا يجعل هوى نفسه ورأيه حكما على الكلام.. أما من يتبع هوى نفسه فإنّه يبحث عن النقص والزلل ليظهره وينشره.. ونحن إذا أردنا الخير لأنفسنا وأهلينا وبيوتنا فلنكن عونا لعلمائنا ودعاتنا وأئمتنا ومصلحينا في نشر الخير، ولنكفّ عن طاعة الشّيطان وعن ترديد ما يلقيه الشّيطان في عقولنا وألسنتنا.
النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- حينما أوصانا قائلا: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت”، وقال حينما سئل عن النّجاة: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك”؛ أراد لنا أن نربّي أنفسنا على ترك كلّ كلام لا نرجو أجره وخيره.
في واقعنا نظنّ أنّ كثرة الكلام والخوض في كلّ المواضيع دليل على الفهم والوعي وكثرة الاطّلاع، لكنّ الحقيقة أنّ ذلك دليل على خفّة العقل، لأنّ العاقل يعلم أنّ كلّ كلمة يلفظها لسانه إمّا أن تكون له أو عليه، في ميزان حسناته أو في ميزان سيّئاته، وأنّ النّاس يوم القيامة يكبّون على وجوههم في النّار بسبب ألسنتهم.
الرأي
ما الذي نريده من أئمّتنا؟!
سلطان بركاني
2024/08/24