العبقرية الاقتصادية للأمير عبد القادر الجزائري ل- د. عمر هارون
العبقرية الاقتصادية للأمير عبد القادر الجزائري
د. عمر هارون
2024/08/06
لا يمكن لأحد أن يتخيل أن شابا في منتصف العشرينيات يمكن له أن يعرقل إحتلال فرنسا للجزائر، خاصة بعد تحطّم الأسطول الذي كان يحمي المحروسة وهو الدّرع الذي أمّن حدودها ثلاثة قرون كاملة، كما أن مفهوم الجيش الحديث المتكامل لم يكن معروفا بالشكل الذي يمكّنهم آنذاك من التوجّه نحو توحيد جهودهم لمحاربة عدوهم، يضاف إلى ذلك استحالة التعرف على هذا العدو والعمل على الانتفاضة ضده من خلال جمع الموارد الطبيعية والبشرية والمادية اللازمة من أجل محاربته.
هنا تأتي عبقرية عبد القادر ابن محيي الدين ابن مصطفى المعروف في العالم بـ”الأمير عبد القادر الجزائري” الذي حوّل المستحيل إلى حقيقة وقاوم المستعمِر الفرنسي وكبّده خسائر فادحة لمدة تجاوزت 15 سنة من المقاومة (1832م-1847م) من خلال جمع كلمة الجزائريين وتوحيد جهودهم وقوتهم فكان ما قام به اللبنة الأولى لتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة.
من القبلية إلى المدنية
إن الرحلة التي قام بها الأمير عبد القادر بمعية والده وقدوته إلى الحج كانت واحدة من أهم المحطات التي صنعت في الرجل مخيالا خاصا إستطاع من خلاله أن يطوّر رؤيته، وأصبح فيما بعد يعرف بإنشاء الدولة الجزائرية الحديثة، خاصة أن مروره بتونس ومصر وغيرهما من الدول في رحلة الحج مكّنته من صقل شخصيته ومنحته إطلاعا أوسع على أشكال أخرى للدول.
ولعل أبرز ما ميز الأمير عبد القادر هو قدرته على ابتكار أدوات جديدة مقارنة بوقته للوقوف في وجه المستعمِر، فكانت أهم أسلحته الاستطلاع واللامركزية والحرص على تقديم الخدمات للمواطنين خاصة ما تعلق بالأمن والتعليم مقابل جباية الزكاة والصدقات والضرائب مثل (العشور، المعونة، الخطيّة، حق البرنوس) كما ركز على أخلقة الحياة العامة حتى وإن تعلق الأمر بالأسرى، فإستطاع أن يحوّل الحياة في الجزائر من القبلية إلى المدنية في المقاطعات الثمانية التي قسّم دولته عليها.
ولم ينس الأمير الصناعة والتجارة وحتى الدبلوماسية الاقتصادية من خلال التأسيس لمصانع أسلحة ومدافع وبارود، وكل هذا جرت إدارته من خلال دواوين ومجالس شورى محلية ووطنية، بل وصل الأمر به إلى تعيين ممثلين دبلوماسيين في بعض دول العالم.
لامركزية العاصمة ولا مركزية الامداد
عبقرية الأمير عبد القادر جعلته قادرا على استحداث عاصمة متنقلة بعد سقوط معاهدة تافنة التي كان بموجبها الأمير سيدا على ثلثي مساحة الجزائر، وحينها قام الفرنسيون بهجومات متعددة على أماكن تمركز الأمير من خلال المعلومات الاستخباراتية الدقيقة التي جمعوها، وبعد أن سقطت عاصمته الأولى معسكر ثم العاصمة الثانية تاقدمت مع نهاية 1840 وبداية 1841، إبتكر الأمير فكرة تعتبر الأولى في تاريخ البشرية والمتمثلة في جعل العاصمة متنقلة، تتحرّك وفق الظروف والمعطيات الموجودة، وهي عاصمة كانت تحوي كل متطلبات الحياة من الأسواق والصناعات والدواوين والإدارة والمدارس التعليمية وكانت تحوي ثروة الدولة من ذهب وفضة، وهو الأمر الذي مكّن الأمير من الاستمرار حتى ماي 1843 إذ تم العثور على الزمالة والقضاء عليها في فترة غيابه عنها، عاصمة كانت كل تفاصيلها مضبوطة بخريطة توضّح فيها كل مقومات العواصم الحديثة، ليستمر الأمير عبد القادر في جهاده إلى غاية 1847 تاريخ استسلامه نتيجة الغدر.
قام الأمير بوضع مجموعة من المصانع لصناعة البنادق والمدافع والبارود، وإستقدم خبراء أجانب من فرنسا وإسبانيا لتسييرها في شكل أوّلي للدبلوماسية الاقتصادية، وحرص كل الحرص على أن تظهر دولته بكل مقوّمات الدولة الحديثة من إهتمام بالعلم والتعليم وحتى الترجمة، بل استغل فترة اعتراف فرنسا به بعد أن كبّدها خسائر فادحة ما بين 1832 و1837 في التواصل الدبلوماسي مع دول أخرى على غرار بريطانيا وأمريكا.
إن أهم ما ميّز حكم الأمير هو لا مركزية الإمداد لمقاطعاته والمدن والقرى التي كانت تحت حكمه، فإستطاع أن يستحدث مخزونا للسلع الأساسية في كل مدينة وفي كل قرية، مما جعل سكان هذه المدن لا يتأثرون بأي حصار أو معارك تقام مع الجيش الفرنسي، إذ كرس المبدأ الرئيسي للزكاة والضرائب والقاضي بإظهار أثرها على المواطن بشكل مباشر وهو ما كان في عهده، الأمر الذي جعل الجزائريين يثقون بشكل كبير في هذا القائد لأنه لم يكن يفكِّر في نفسه وحاشيته فقط، بل تمكَّن من تقديم الإمدادات لكل من كانوا تحت رايته.
صناعة قوية وخبرات دولية
توقيع معاهدة تافنة في 1837 جعل الأمير عبد القادر يتفرّغ لتطوير دولته التي كان يرى لها آفاقا جديدة وحديثة.
وبعد أن قسّم الجزائر إلى ثماني مقاطعات، وجعل على كل منها خليفة، وأمدّ كلًّا منهم بدواوين تنظم الحياة ومجلس محلي له إمتداد وطني وجُباة للضرائب، واهتمّ بتأمين الجزائريين من خلال حرصه الشديد على تأمين الطرقات وسبل التجارة، وكل هذا كان من خلال الجيش النظامي الذي أسسه وجعل أفراده يعملون بدوام كامل ويخضعون للتدريب وقُدّمت لهم مقابل ذلك أجورٌ دورية، كما قام الأمير بوضع مجموعة من المصانع لصناعة البنادق والمدافع والبارود، وإستقدم خبراء أجانب من فرنسا وإسبانيا لتسييرها في شكل أوّلي للدبلوماسية الاقتصادية، وحرص كل الحرص على أن تظهر دولته بكل مقوّمات الدولة الحديثة من إهتمام بالعلم والتعليم وحتى الترجمة، بل استغل فترة اعتراف فرنسا به بعد أن كبّدها خسائر فادحة ما بين 1832 و1837 في التواصل الدبلوماسي مع دول أخرى على غرار المملكة البريطانية وأمريكا، كما حاول إستيراد كل ما ينقصه من المناطق الحدودية مع محاولة توفيرها محليا، وكل هذه العبقرية في إقامة الدولة والترويج لها ما كان ليستوي إلا من خلال سكّ عملة خاصة بدولته وهي عملة “المحمدية”.
لا يمكن لأحد أن يتخيل أن شابا في منتصف العشرينيات يمكن له أن يعرقل إحتلال فرنسا للجزائر، خاصة بعد تحطّم الأسطول الذي كان يحمي المحروسةإن عملة “المحمدية” أو محمدية الأمير عبد القادر كما نحب أن نسمّيها كانت خطوة عملاقة في سبيل التأكيد على كينونة الدولة التي أقامها بعد اعتراف الفرنسيين به وبسلطته على ثلثي الجزائر تحت وطء الضربات التي قصمت ظهرهم في معاهدة تافنة، وإستطاع من خلال تجويع الجيش الفرنسي وإستنزافه بهجمات الكر والفر أن يغيّر موازين القوى في حالة تشبه المستحيل، ولم تسحب عملة “المحمدية” من التداول إلا بإجراءات خاصة إتخذها الفرنسيون في حدود 1847.
هذا الواقع يؤكد مدى القوة والصلابة التي تميزت بها فترة حكم الأمير. كانت عملة “المحمدية” تتميز بالنقوش القرآنية التي زيّنتها وهو ما يؤكد أن الرجل لم يكن نرجسيا مجنونا بحبّ نفسه إذ لم يطبع صورته على عملته كما يفعل العديد من الملوك والأمراء في زمانه، وجرى سكُّها من الفضة في حين سكّ “النصفية” والتي كانت تساوي نصف “المحمدية” من النحاس، وكل هذا كان في دار الخزنة التي كانت في عاصمته “تاقدمت” وجعل بعدها دارا للسكة في ولاياته حسب الحاجة، وهو ما يعني أن الرجل أدار سياسته المالية وفق مؤسسات قائمة بحدّ ذاتها، وهو دليل آخر على العبقرية الاقتصادية للأمير.
أن يصنع الأمير لنفسه هيبة تمتد إلى الصعيد العالمي تجعل الأمريكان في ولاية إيتوه يطلقون إسمه على مدينة فيها “مدينة القادر” في 1846 في زمن لم يكن فيه الاعلام يوصل الأخبار إلا بشق الأنفس، وتطلق موسكو اسمه على ساحة بقلب عاصمتها في 2023، فهذا يعني أنه فعلا شخصية فذة من النادر وجودها في التاريخ، خاصة أنه لم يكن محاربا فقط بل كان سياسيا وفقيها وشاعرا، والأهم من كل هذا أنه كان إنسانا، وقدّم أروع وأنبل الأمثلة في التعامل مع الأسرى حين حكم الجزائر وفي حماية المستضعفين وإن كانوا من غير دينه كما حدث في حادثة حمايته ـ11 ألف من المسحيين في منطقة باب تومة في دمشق في 1860 حيث كان منفيًّا.
إن هذه المحطات من حياة بطل الأمة والإنسانية ليست بهدف التأريخ، فالكتب والدراسات التي تناولت سيرة البطل كثيرة ومتنوعة، لكن الهدف الأساسي هو التركيز على عبقرية الرجل في التعامل مع مختلف الظروف والحيثيات التي عاش فيها خاصة الاقتصادية منها، ولم يستسلم لها، بل طوّعها لخدمة بلده وأمته ولولا الخيانة لكان الأمير قد استطاع أن يطرد المستعمِر من أرض الجزائر قبل خمسينيات القرن التاسع عشر لكن لنا في التاريخ عبر.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.