لم يعد بالإمكان اليوم، العودة إلى الخلف بسهولة مطلقة، رغم المحاولات التي لن تنقطع ولن ييأس أهلها وأصحابها من أجل العبث بالمستقبل عبر تخريب متغيرات الحاضر، والالتفاف على منجزات الماضي، والتقليل من شأن الكل، أو اعتبار بعضها مجرد محاولات وحملة صيف عابرة، قد تنتهي في أي وقت من الأوقات، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة.
أتحدث هنا، عن متلازمة الفساد بكل مكوناتها وأساليبها: المالي والسياسي والأخلاقي، التي كثيرا ما كانت سببا في تخريب مفاصل الدولة ومؤسساتها، ما أثر سلبا على مقومات الدولة الاقتصادية والسياسية، ولكن أيضا على مستوى مصداقية الدولة ومنظومة الحكم أمام شعبها.
المال السياسي غير القانوني، مهما كانت مصادره ودواعيه ومحصلاته، كان الرئيس عبد المجيد تبون أول ما أعلن عليه الحرب، بناء على التجربة السابقة التي كادت أن تعصف بالدولة ومؤسساتها، بفعل جرائم المال السياسي التي تحوّلت إلى ممارسات “قانونية” تحظى بحماية وغطاء فوقي غير مسبوق، حتى عدنا نعيش وكأننا في إقطاعية القرون الوسطى، تتحكم قوة النبلاء في كل مفاصل الدولة الملكية، لا يهمها ما يحدث على مستوى الطبقات والفئات الدنيا من الشعب المتروك على عواهنه، يحل مشاكله الفردية بمفرده وعلى النحو الذي يراه ويرضيه: زبائنية، محسوبية، جهوية، و”معريفة” بلا معارف، استثمارات بلا مال من لحية المال العام: قروض بلا ضمان ولا رهن، تهريب للعملة، تضخيم في الفواتير، استيراد عشوائي إجرامي في حق الخزينة العمومية وفي حق صحة الشعب، قوانين مصادَرة بقوانين عرفية، تكتلات، لوبيهات العبث، التزوير، التدوير، التكوير، بلا رقيب ولا حسيب.
اليوم، بدا جليا أن القوانين إنما خُلقت لتطبَّق مهما كان وضع ومكانة مخترق القانون أو المتحايل عليه: لا صوت يعلو فوق “سوط” القانون.. والدليل، المتابعات القضائية في حق من ضُبطوا متلبسين بشراء الأصوات الممهدة للترشح للرئاسيات. ترشح لقيادة البلاد بمال فاسد: تلك هي الطامة الكبرى والعجب العجاب.
البعض، كما ذكرنا، لا يزال يرى أن الأمر يمكن تجاوزه، وكأنه لا يؤمن بأن التغيير هذه المرة ليس مجرد كلام، بل استراتيجية متفق عليه أمنيا وسياسيا ودستوريا، ويصرّ عليها رئيس الجمهورية شخصيا ويباركها ويشدد عليها: إذ لا إصلاح مع إفساد. ولا “عقيق على شليق” ، ولا “تبديلة على تبهديلة”. البعض، لا يزال لم يصدّق، خاصة ممن تعودوا أن يعيشوا أو يفهموا أن كل شيء قابل للشراء بالمال، وهو متفق عليه، لكن ليس في كل الأحوال وفي كل الظروف، وإلا لما كان من داعي أن نسنّ الدساتير والقوانين، فمن طبيعة البشر أن يحب المكانة والمال والجاه والسؤدد، وأن يُحمدوا على ما لم يفعلوا، لكن لهذه الأطماع ولهذا النزوع الغرائزي حدود. يجب أن توضع لذلك حدود لضمان تساوي الحقوق في كل المجالات: عمل ليس بسهل المنال ولا باليسير تطبيقه وتحقيقه، في ظروف التنشئة السياسية الباحثة عن الإصلاح الراشد. هذا، يتطلب جهدا ومثابرة ووقتا وعملا ومتابعة، لا كلل فيها ولا ملل، كل في مستواه وكل في موقعه.
الدروس التي قد نستخلصها من هذا كله، أنه لا نريد من الآن فصاعدا أن نرى منتخبين إلا عبر آلية ذات مصداقية يراها ويلمسها المواطن عبر رؤيته للعدالة في كل شيء تطبق وحقوق المواطنة تجسد قولا وعملا. أن يكون فيها الصوت الممنوح، عن قناعة واستحقاق شفاف، لا عن طريق الارتشاء وبيع وشراء وتجارة الحمامات والأعراس والحفلات ودكاكين الحلاقات.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.