((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)).. ليس حراما ولا عيبا أن يكون للعبد المؤمن دور في عمارة هذه الدّنيا، ويسعى لنيل حظّه منها، بل هذا مطلوب وقد يكون واجبا، لكنّ الحرام هو أن تستحوذ الدّنيا على قلب العبد المؤمن، وتأسر روحه، وتصبح أكبر همّه ومبلغ علمه، وقته كلّه لها وهمّه كلّه متعلّق بها، لأجلها يفرح ويحزن وعليها يوالي ويعادي.
مهما غفل من غفل منّا عن حقيقة هذه الحياة الدّنيا، ومهما تنافس من تنافس في جمع الأموال وادّخارها، فإنّ لله عبادا عرفوا حقيقة حقيقتها وأنّها مزرعة للآخرة، فزرعوا فيها ما يرجون حصاده يوم يلقون الله. وهؤلاء لا يخلو منهم زمان.. وفي زماننا هذا لا نزال نرى ونسمع من حين لآخر أحوال وأخبار صالحين وصالحات، في واقعنا هذا المليء بالشّواغل والملهيات، يُعطون أروع الأمثلة في الاستعداد للممات، والتزوّد ليوم النّدامات والحسرات؛ يروي أحد الصّالحين عن والد زوجة صديقه، يقول: والد زوجة صديقي، لما توفّي، حضرتْ إلى منزلهم امرأة معها ثلاث بنات جامعيات، وقالت لابنة المتوفّى: بناتي اليتيمات كان يكفلهنّ أبوك منذ كنّ في الابتدائي.. كان يكفل ثلاث يتيمات وظلّ يكفلهنّ حتى بلغن المرحلة الجامعيّة، ولم يكن يعلم به أحد ممّن هم حوله، حتى ابنته، لم تعلم بأمره حتى توفّي ورحل عن هذه الحياة الدّنيا، ليكون بإذن الله جارا في الجنّة لخير خلق الله نبيّ الهدى عليه الصّلاة والسّلام الذي قال: “أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين، وأشار بالسبّابة والوسطى”..
رجل مؤمن آخر يروي عنه أحد أصدقائه يقول: صديق لي، مات ثلاثة من عُمّاله، ولا يزال منذ سنوات يرسل رواتبهم كاملة إلى عائلاتهم.. وآخر يروي عنه أحد معارفه يقول: عرفت رجلا اسمه محمد، كان مثالا في السّخاء، وكان من عجائبه أنه إذ مرّ مع أسرته على أطفال فقراء، خلع الأحذية من أرجل أطفاله وأعطاها للفقراء ووعد أطفاله بالبديل.. رجل صالح آخر نحسبه كذلك، تروي إحدى الفتيات أنّها من حين توفّي والدها وهذا الرّجل يطرق بابهم بعد صلاة كلّ جمعة ويضع لهم الطعام، لم يفتُر عن ذلك 15 سنة كاملة، مع أنّهم لا يعرفونه.. معلّمة صالحة نحسبها كذلك، تتحدّث عنها إحدى طالباتها تقول: هذه المعلّمة التحقت بمدرستنا مؤخّرا، منذ أن حضرت العام الماضي، قامت بفرش مصلّى المدرسة واشترت مكيّفات على حسابها، وأخذت ترغّب الطالبات والعاملات في حفظ القرآن الكريم…
إنّهم عباد لله يعيشون معنا على هذه الأرض، ويعيشون واقعنا هذا الذي يتعلّل كثير منّا بفساده وكثرة متطلّباته، ولهم نفوس كنفوسنا تحبّ المال وجمعه، لكنّهم نهوا أنفسهم عن الهوى وعملوا لجنّة المأوى.. عبادٌ لله جعلوا نصب أعينهم قول خالقهم جلّ شأنه ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار)).. فيا له من جزاء، لمن بذل وتصدّق وأعطى وأنفق يرجو دار البقاء.. طوبى لعبد سمعه بأذنيه ووعاه قلبه وعملت به يده.. طوبى لعبد قلبه معلّق بما عند الله.. طوبى لعبد يغرس جنّته بدنانير قليلة يجعلها في أيدي الفقراء والمساكين.. طوبى لقلوب سخية لم يعرف البخل إليها طريقا.. طوبى لأيد معطاءة لا تعرف الكلل ولا الملل، تعرف أنّ التّجارة مع الله هي أربح وأنفع وأدوم تجارة، ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور)).. يُخرج العبد المؤمن من جيبه دنانير معدودة، يضعها في يد أرملة أو فقير أو مسكين أو يتيم يرجو ما عند الله، فيعوّضه الله بها في الدّنيا بركة في ماله وصحّة في بدنه ورقّة في قلبه وخشوعا في روحه وزوالا لهمّه، وحفظا لأبنائه، ويكتب له أجرا يضاعفه له أضعافا تصل إلى 700 ضعف، تُدخّر له ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. يَقدم يوم القيامة فيجد في صحيفته جبالا من الحسنات، نالها بتلك الصّدقات وتلك الأعطيات التي كان يبذلها راجيا ما عند الله ربّ البريات، فيسعد غاية السّعادة، ويُحشر في ظلّ صدقته، ويجوز الصّراط بنورها، ويُدعى من باب المنفقين ليدخل الجنّة خالدا مخلّدا.
إنّ من أمتع وأروع لحظات هذه الحياة الدّنيا؛ تلك اللّحظات التي يُخرج العبد المؤمن صدقة بيمينه فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، يضعها في يد الفقير، فيرى البسمة قد ارتسمت على محيّاه، ويرى شفتيه تتمتم له بالدّعاء، يحسّ العبد المؤمن في تلك اللّحظة برقّة عجيبة في قلبه وبنشوة غامرة في روحه، ويجد سعادة أعظم من السّعادة التي يجدها الفقير بصدقته، لأنّه موقن أنّ هذه الحياة الدّنيا قصّة قصيرة تنتهي فجأة، وأنّ السّعيد حقا هو من سعى لإدخال السّعادة إلى قلوب المحرومين والمعدَمين والفقراء بكلمة أو ابتسامة أو صدقة مهما كانت قليلة، فالحرمان أقلّ من القليل.. يعلم أنّ الله قد أعطاه وحرم غيره ليس لأنّه فضّله أو لأنّه عنده في مقام أكرم من الفقراء.. كلا وألف كلا، أعطاه وحرمهم ليختبره وينظر هل يعطيهم من مال الله الذي أعطاه.
فيا أخي المؤمن.. شارك في صنع الفرحة والسعادة وأنفق مما أعطاك الله، وعلّم أبناءك التواضع وحسن الخلق والإحسان إلى المحرومين.. الحياة متقلبة ولا شيء يدوم.. ربّما أنت اليوم تملك ما يكفيك، لكنّك قد تبتلى غدا فتحتاج إلى مساعدة الآخرين، وربّما تفقد ما تملك وتصبح فقيرا معدما تنتظر إحسان المحسنين.. فإن أحسنت اليوم قيّض الله لك من يحسن إليك غدا، وإن أمسكت اليوم أمسك عنك النّاس غدا.. أحسن في وقت السّعة يحسن الله إليك في وقت الضّيق.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.