أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
تُعَدُّ الثورة الجزائرية من أهم التجارب الإنسانية في العصر الحديث، كما أنّ ما يشهده العالم من استبسال الفلسطينيين في غزّة طوفان الأقصى سيُمَثل علامة فارقة في حروب التحرر في القرن الواحد والعشرين؛ ذلك أنّ التجربتين هما انعكاس للقيم الدينيّة، والثقافية التي تُجسِّدها كلتا الثورتين.
فذكرى استقلال الجزائر مناسبة عزيزة على قلوب أحرار العالم، وبخاصة لإخواننا الفلسطينيين الذين يخوضون مقاومة باسلة نيابة عن الأمة الإسلامية، فهي تمثل رمزية تساهم في إبقاء جذوة الأمل في التحرر والانعتاق متّقدة، لذلك كثيرا ما نلاحظ مؤشرات لإعادة انتاج هذه التجربة، لأنّها الأقرب إلى الوجدان والعقل والواقع الفلسطيني.
فتحرر الشعب الجزائري من الاستعمار الاستيطاني الصليبي الفرنسي، وصموده طيلة مدة قرن وثلث قرن، إنّما كان بفضل رصيده الحضاري وإرثه المعنوي الذي حفظ له ذاتيته وهويته التي صمم المستعمر عبر مشاريعه السياسية والثقافية والاجتماعية على سلخه منها، أو على الأقل محاولة مسخه، فلم يتحقق له مراده وإن ترك آثارا لم تتعاف منها الأمة إلى يومنا هذا.
وهذا الإرث الحضاري والديني عامل مشترك بين الجزائريين والفلسطينيين، بل بين سائر المسلمين، فالنصوص المؤسسة لهذا الدّين الذي ينتمون إليه زاخرة بقيم الحرية والكرامة والصبر والعدل، ولذلك اعتُبِرَ الجهاد ذروة سنام الإسلام.
وكما كانت ثورة نوفمبر المظفرة تتويجا لمسار طويل من المقاومات الشعبية و السياسية، تجرع فيه الجزائريون صنوفا من العذاب والمعاناة، وقُدِّمَت فيه التضحيات وقوافل من الشهداء، فجاء اليوم الذي أذاق مجاهدونا الأبطال الاحتلال مرارة الهزيمة، وتحرر الشعب من هذا الاستعمار الإحتلالي، في يوم من أيام الله تعالى، في اندفاع النقم والبلاء ،وأي بلاء أعظم من أن يسلبك أحدهم حريتك ويحرمك من لغتك ودينك وأرضك ويلقي بك في غياهب الفقر والجوع والحرمان فزواله نعمة لا يعرف حقيقتها إلا من عاشها: «و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله».
ولم يتحقق لهم ذلك إلّا بتفعيل الدور الإيجابي للدّين في النفوس من خلال اعتبار عمل الثورة بمعناها الواسع جهادا.
فالثورة الجزائرية مدرسة ألهمت كثيرا من الحركات التحررية بتجربتها الثرية؛ فقد تفطّن مفجروها أن التحرير لا يتحقق إلا بتوحيد الصف في مواجهة المحتل في الجانب العسكري والجانب السياسي وتوسيع دائرة المواجهة لتشمل كل شبر من الأرض، وانخراط الشعب على اختلاف مواقعه في المعركة الفاصلة، مع التخطيط والاعداد الجيد في حدود المقدور عليه، والتضامن والتعاون والمواساة في تخفيف المعاناة عن بعضهم البعض، كل هذه القيم وغيرها كانت وسام فخر للثورة الجزائرية التي كللت بهذا اليوم الذي نحتفي به، ونذكِّر به، ونسعى لإبقاء هذه القيم في حياتنا للمحافظة على تركة الشهداء وأمانة المجاهدين.
وكذلك فعل القائمون على مشروع المقاومة في أرض فلسطين فقد أدركوا أنّ الدين هو المحرك الرئيس لأي مشروع تحرري طويل المدى، لذلك عملوا على الاعداد الجيد لجيل التحرير، من خلال التشبع بالزاد الإيماني والقرآني في مواجهة المحتل، والالتحام بين الجناح العسكري والحاضنة الشعبية، ومن ثمراته ما كان من أثر طيب في النفوس لمعركة طوفان الأقصى من خلال سلوكات حضارية في معاملة الأسرى والتي عكست منظومة القيم التي جاء بها الدّين رغم محاولات مستميتة ويائسة من الاعلام الصهيوني ومن يسير في ركابه لتشويه صورة المقاومين الأشاوس، فضلا عن الاعداد المبهر للوسائل العلمية والتكنولوجية والتخطيط في المواجهة ، مع حسن إدارة المعركة إعلاميا.
وكان من نتيجة ذلك ما نراه من مواجهات عسكرية مُذلّة لليهود، وهزيمة نفسية لجنود هذا الكيان، بعثت الأمل في نفوس اليائسين والمتشككين في إمكانية استئصال هذا السرطان من جسم هذه الأمّة، وتحرير الأرض المباركة، وإجهاض حلمه في التمدد من النهر إلى البحر.
ولا ننسى ها هنا من وقف معنا من إخواننا وجيراننا في الحدود أو العرب والمسلمين، وأحرار العالم في الدعم والمساعدة والتأييد.
لذلك فإنّ دعم المقاومة، بشتى الوسائل من العرب والمسلمين وأحرار العالم، والتخفيف عن أهاليهم وذويهم ما يعانونه من جوع ومرض، وتشريد، واجب أخلاقي وديني، ومعيار حاسم لمدى تمسك المسلمين بتعاليم دينهم، وغير المسلمين بما يتغنون به من قيم أخلاقية وإنسانية جامعة
وكما كان مجاهدونا على يقين وثقة بمدد الله، وعونه في تحقيق النصر على أعدائهم، فإن المجاهدين في فلسطين ومعهم المؤمنون يوقنون بأنّ يوم التحرر من السرطان الصهيوني آت لأنهم أخذوا بالأسباب المحققة لهذا الوعد.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.