لقد تمادى البعض في وسم اللسان العربي مرة بالغربة وأخرى بالنقصان والعجز، ومنهم من يرى في وجودها إشكالا وفي تعليمها صعوبة، وهذا لاشك يجهل اللسان العربي الذي به يتم الكمال لما يتصف به من خصائص عالية ومباني جد راقية وقدرة على تمام المباني بالمعاني مهما كانت أنواع مقاصدها، بل إن كمال اللسان العربي أقرّ به المعادي والكافر والأعجمي العاق لما فيها من سحر البيان وتمام البنيان.
إذا كان الشائع بين الناس أن ريني ديكارت قال “أنا أفكر إذن أنا موجود” فإن ذلك لا يعني إلا حقيقة واحدة وهي “أنا أتكلم إذن أنا موجود” ولا نبالغ إذا قلنا إنّ اللسان العربي هو أرقى مراتب الوجود لأن من المحال أن يكون هناك فكرٌ من دون كلام نعبّر به عما يجول في عقولنا ومشاعرنا، ومن المحال أن نعي وجودنا من دون أن نفهم وحي ربنا والذي كان بلسان عربي مبين .
وعليه، فإن اللغة مستويات متفاوتة والبون فيها واسع ومنها لغة قادرة على أن تعبر عن المجرد والمعقول وعن الروح وعن العلوم بكل مضامينها، وهناك لغة غير قادرة على ذلك إلا باستعارة من غيرها لمحدوديتها وفقرها وفقدانها القدرة على ابتكار كلمات جديدة. وهناك لغات فقيرة جدا لا تصلح حتى للتعبير عن التواصل التام بين أفرادها، ولذلك فإنّ القول إن أي مجموعة إشارات يعدُّ لغة هو تبسيط للأمر وإخلال بمعنى اللسان، ذلك أن الكلام خاصية إنسانية صرفة وبها يتميز عن سائر الموجودات وبها كرِّم الإنسان، يقول ابن منظور الأنصاري الإفريقي (فإن الله قد كرَّم الإنسان وفضله بالنطق على سائر الحيوان وشرَّف اللسان العربي بالبيان على كل لسان).
ولا يمكن أن يكون كلام من دون نطق، ولا غرو أن عرف الإنسان أنه “حيوان ناطق”. غير أن النطق ليس واحدا؛ فهناك النطق الفصيح إذ تخرج الأصوات متناغمة ومرنة ومتباينة فلا نشعر في الكلام خلخلة ولا في الصوت تداخلا وصلصة، فالنطق الفصيح هو لغة مدود أصواتها نوتات مقدرة ومحسوبة أحرفها تكاد أن تكون من وضوحها موجودات متفردة، كل حرف له كيانه ووجوده وتميزه، وعندما ينتظم في الكلمة يجلس مع أقرانه باستواء تام، وهذا لا يتحقق إلا في اللسان العربي المبين والنطق المُضَري الرزين. وهناك النطق غير الفصيح الذي يكثر فيه الإدغام وتداخل الأصوات في ما بينها وغلبة صوت واحد أو صوتين لحرف أو حرفين مثلما هو في كثير من اللغات الأعجمية من شنشنة أو نغنغة وزنزنة…
إن هؤلاء الذين يجهلون عبقرية اللغة العربية ومقدرتها لم يرتقوا قطّ إلى مراتب وجودها، فهم لم يتذوقوا أساليب تعابيرها وفنون تراكيبها، ولم يتحسسوا سحر بيانها، ويجهلون آدابها وعلومها.
وي ..! أهناك غير اللسان العربي الذي يترقى بالروح والوجدان في عالم المعاني من خلال أشعارها وأناشيدها ونثرها، وعلى ترانيم أصواتها وألفاظها ننثر مكنونات مشاعرنا ولواعج عواطفنا من أحزان وأفراح فتخرج من خلالها الآهات أهات والزفرات زفرات والأهازيج والرقصات؟ !
وهل هناك غير اللسان العربي يحتوي تلميحا من دون تجريح وقدرة على الإفهام والتوضيح من خلال الاستعارة والتشبيه والكناية والتصريح، وتدرّجا في التصورات يتبعه تدرُّج في المترادفات؛ إذ كلما اشتد وارتخى المعنى اشتد وارتخى المبنى، وسجع في القول والجمل فيشد السامع والقارئ لعذوبة موسيقى الكلام، وكثير من نظم البلاغة يعبر بها حق التعبير عن المقاصد والأفهام؟ …!
وهل هناك غير اللغة العربية من بين كل اللغات التي وُجدت كاملة، إذ لا تحتاج في تغيرها وتطورها إلا أن تتولد منها كلماتها منها وكأنها ألبسة فُصِّلت أحسن تفصيل تنتظر معانيها أن تلبسها وهي مختلفة الأنغام في المسمع وجلية الوضوح في الفهوم، بل إن للغة العربية من القدرة أن تعرِب حتى الكلمة الأعجمية فتنحت منها الفعل والفاعل والمفعول به وله وحتى المطلق.. وهي خاصية تميزها وحدها وكأنها تقول أنا الأصل والباقي مجرد فروع؟..!
إن اللغة العربية التي فضّلها الله على سائر ما خلق من اللغات قُدِّر لها أن تكون اللسان الذي يقول به ما يريده للمخلوقات من الإنس والجان ويخبر به عن ماضي ومستقبل الإنسان والشيطان، فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم كلاما عربيا متينا تحدى أن يأتى بمثله مخلوقات العالمين، إنه لفضل كبير للغة العربية أن تحمل أسماء الله وصفاته وبها نعرفه ونعبده .
هل هناك غير اللغة العربية من بين كل اللغات التي وُجدت كاملة، إذ لا تحتاج في تغيرها وتطورها إلا أن تتولد منها كلماتها منها وكأنها ألبسة فُصِّلت أحسن تفصيل تنتظر معانيها أن تلبسها وهي مختلفة الأنغام في المسمع وجلية الوضوح في الفهوم، بل إن للغة العربية من القدرة أن تعرِب حتى الكلمة الأعجمية فتنحت منها الفعل والفاعل والمفعول به وله وحتى المطلق.. وهي خاصية تميزها وحدها وكأنها تقول أنا الأصل والباقي مجرد فروع؟..!
أليس ذلك حدثا يدعو إلى التأمل والتدبر في أن يكون مثل هذا الفضل للسان العربي على سائر الألسن، وعلى أنها هي لغة العقل والقلب والروح وكأنها هي لغة الإنسان؟ ذلك ان جميع اللغات في تعابيرها عن القلب والعقل لا ترتقي أبدا إلى أن تكون معبّرة ودالة كما هو الحال في دلالة اللغة العربية عن جميع الأحوال .
إنه لو دققنا في أمر اللغات والألسن الأعجمية وتفحصنا تعابيرها اللفظية لوجدنا أنها لا تعبّر حقا عما هو معنوي ومعقول وروحاني إلا بلفظ لم يتخلص تماما من طابعه الحسي المادي ولو أخذنا أرقاه وأقدمه وأهمه، لفظ الجلالة ‘الله” أو كلمة “الروح” في دلالات لغات أخرى لقدرنا أن نتتبع جذورها الحسية، وحتى ما يعبر عنه في العواطف والمشاعر والوجدان وما يختلج الصدور من وساوس وخواطر لا نجد حقيقة الدال مع المدلول ألا في اللغة العربية، أما كثير من الألسن فنجدها ذات لون مادي أو غريزي.
لذلك لا توجد لغة تضاهي اللغة العربية في روحانيتها وفي تجردها الخالص من شبهات الحسية وفي القدرة على التمييز بين التصورات والمفاهيم وتمثيلاتها الواقعية.
أن التجريد الخالص والمعنى الخالص لم يتسنّ إلا للّغة العربية وحدها ولذلك العرب كان الكلام عندهم شعرا أكثر منه بسطا ونثرا، ولم يكن إعجابهم وانجذابهم لما ينثرونه من كلام عن معاشهم أو حياتهم اليومية، وإنما في ما تحدو به أرواحُهم وقلوبهم وعقولهم من أشعار، ولذلك قيل إن الشعر هو ديوان العرب ونثرهم، وإن أتى الثاني فلا يقل دقة وصوابا، إننا في فعل (أرى) نستعمل: شاهد ولاحظ ولمح وبصر ولاح له وعاين… كل كلمة لها درجتها من الرؤية، فهل هناك لغة تملك مثل هذه الدقة والتدرج؟
البعض من المغتربين يتصوّرون أن اللغة العربية لا تمتلك العبارة العلمية وعاجزة عن أن تكون لغة الرياضيات والفيزياء والطب والكيمياء… ولذلك يتوهمون أنها ليست لغة علوم، ولو تفحصنا حججهم لوجدنا أن أغلبها متهافت، فلقد بيّن الواقع أن الأمة لا يمكن أن تحقق اندماجها في نسق تفكير العلمية إلا بلغتها القومية، ولا يمكن أن تدخل حقل الإبداع المعرفي والعلمي إلا من خلال لغتها، ثم إن اللسان العربي لم يكن غريبا على العلم بل إنّ بداية المعرفة العلمية لم تتحقق إلا بفضل اللسان العربي، ولم يتطور الطب والرياضيات والكيمياء وعلوم الزراعة والملاحة الا بها، ولو نقّبنا الآن في تعابير العلوم التجريبية الحديثة لوجدنا التعابير العربية صارخة وناطقة إلى درجة أن علماء الغرب مندهشون من كثرة عدد المصطلحات العربية في ثنايا العلوم التي يُعتقد أنها غربية صرفة.
لقد كانت العربية ولا تزال هي لغة المنطق والرياضيات والفلسفة والعلوم بمختلف تفرعاتها، وما دعوى عدم قدرتها على العبارة العلمية إلا عجز ذاتي أو تجاهل مقصود، وأحيانا لعداء شعوبي وأيديولوجي بغيض …
نقول للذين يعادون اللغة العربية أو يرونها إشكالا: إن القصور والإشكال عندكم وفيكم، وإن هناك ثغرة كبيرة في معارفكم، إذ لا تعرفون قرونا كثيرة من الإبداع والحضارة والإنسانية والتاريخ والحكمة والإيمان، ولن تشعروا أبدا بروحانية سامية وستبقون سجناء أجسامكم وجغرافيتكم فقط، فأنتم غرباء الروح والعقل، روي عن بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي” ويقول ابن منظور “قد كُرِّم الإنسان وفضّله بالنطق على سائر الحيوان وشرف اللسان العربي على كل لسان بالبيان، وكفاه شرفا أنه به نزل القرآن وأنه لغة أهل الجنان”.
والحق أنها ليست لغة قوم فقط وإنما هي لغة الإنسان، ذلك أن من تعلّم العربية أصبح للسانه عقلٌ يتكلم به.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.