فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3275.65
إعلانات


الرباط النسوي في بيت المقدس والأدوار الحضارية

الرباط النسوي في بيت المقدس والأدوار الحضارية

أ.د. فضيلة تركي/

تعد القدس بوصلة الصراع بين الإسلام والغرب، فبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى ومسرى الرسول-صلى الله عليه وسلم- ومهوى أفئدة الأنبياء عليهم السلام، والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله لصلاة الرسول الأكرم-عليه الصلاة والسلام – بهم، وأهم دلالات صلاته بهم؛ تسليم الأنبياء للرسالة والأمانة والدعوة لتوحيد الله وعبادته وحماية المسجد الأقصى إلى الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته.

إن الصراع على القدس صراع وجودي مصيري وليس صراعا جغرافيا سياسيا، وإسرائيل زرعت في قلب العالم الإسلامي حتى تسهم في حسم الصراع الحضاري لمصلحة الغرب، الذي يتكئ على تراث عريق من الثوابت الدينية الثقافية المعبرة عن الحضارة المسيحية اليهودية، فالصراع على القدس صراع حضاري بامتياز، وكل طرح خارج هذا السياق يخرج المعركة من ساحتها الحقيقية؛ ليلهي الأمة عن معركتها الحقيقية.
وتعد الاقتحامات اليومية لبيت المقدس ومحاولات التقسيم الزماني والمكاني للأقصى قصد تهويده وإقامة الهيكل المزعوم بعد هدمه هي الأخطر على الأقصى منذ الحملات الصليبية التي ذبح فيها سبعون ألف مسلم وغرقت مدينة القدس قي الدماء والأشلاء.
والمقاومة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لم تتوقف يوما، ما دام قلب الأمة ينبض بالتوحيد، لأن عقيدة التوحيد الضامن الوحيد لتحريك الأمة لتقاوم وتدحر أي غاز أو مستعمر أجنبي.
وتختلف صور المقاومة بحسب طبيعة الصراع، فقد أبدعت الحركة الاسلامية في فلسطين في تطويع أدوات مقاومة جديدة ومتطورة تتمثل في الرباط النسوي في بيت المقدس.
في التجربة الحضارية الأولى كان الرباط في مكان ليس وراءه الإسلام، فالمرابطون بمثابة الحراس لحدود البلاد الإسلامية، وغايته الاقامة في الثغر لإعزاز الدين ودفع خطر الأعداء عن المسلمين.
أما اليوم وفي محاولة للتمكين لظهور حضاري جديد، ينطلق الرباط من قلب الأمة (بيت المقدس) وليس من أطرافها، وتقوده المرأة لطبيعة الصراع المفروض على الأقصى؛ فتنطلق المرابطات المقدسيات لتشتبك مع العدو.
الرباط النسوي جاء نتيجة لطبيعة الاقتحامات التي تبدأ صباحا، ومحاصرة دخول الشباب والرجال من خلال لائحة طويلة من القوانين، وبدايته كانت محتشمة ولكن بفضل جهود الحركة الإسلامية في الداخل وعلى رأسها الشيخ رائد صلاح، ازداد عدد المرابطات وأصبحن ينتهجن أساليب متعددة في دخول الأقصى والتخفي ومجابهة الاقتحامات.
فالرباط النسوي يعد منهجا جديدا مبتكرا في المقاومة أجهض مشروع التقسيم الزماني والمكاني الذي راهن عليه الاحتلال لهدم الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم، ولقد راهن الغرب على تهويد القدس لنحر الأمة وضمان موتها القيمي وأفولها الحضاري للأبد.
والمؤلم حقا من يعين المحتل الغاشم ويشكك في مشروعية هذا النوع من الجهاد وسرد أدلة عدم جواز اصطدام المرأة مع العدو خاصة عندما يقبض عليها جنود الاحتلال أو تتعرض للسحل من طرفهم…، فهذا النوع من المفتين يفتي بعدم مشروعية جهاد المرابطات وهو في قصر سواريه من ذهب بين جواري وحسناوات هوليود.
فالرباط النسوي ضارب في عمق تاريخ الإنسانية، روى لنا القرآن الكريم قصة خير نساء العالمين مريم البتول-عليها السلام- التي تبتلت وتفرغت للعبادة في بيت المقدس في حين كان هذا الأمر مستهجنا من كهنة المعبد.
وروى لنا التاريخ أيضا عن حرائر فدين بيت المقدس بأرواحهن، ذكر ابن العربي في سراج المريدين أنه «كان في بيت المقدس نسوة يُفْخَرُ بهنّ على الأزمنة؛ يَلْتَفِفْنَ على العالمة الشيرازية: فقيهة واعظة متعبدة متبتّلة؛ فلما دخل الروم بيت المقدس يوم الجمعة لاثنتيْ عشرة ليلة بقيت لشعبان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة (492هـ/1099م) لجأت بهن أجمعين إلى المسجد الأقصى، وجلسن في قبة السلسلة..، فلما غشيتهن الروم قمن إليهم بالسب ورمي التراب في وجوههم، فحصدوهن بالسيوف وأنزلوا بهن الحتوف. قال لي من عاين ذلك وهو في سطح المسجد الأقصى: كن قريبا من ألف امرأة».
ورغم أهمية التواجد في المسجد الأقصى وإعماره لإجهاض مشروع التهويد، إلا أن الرباط الأهم الذي مارسته حرائر الأقصى هو الرباط القيمي فالاختراق القيمي يعد أخطر أنواع الصراع الذي مورس على الأمة عامة وفلسطين خاصة، هذا الصراع الذي يعبر عن الخوف من الإسلام وامتداده الحضاري.
وتشاء الأقدار أن يكون الأقصى وفلسطين هما نقطة الاشعاع الحضاري في الوقت الراهن، فالرباط القيمي الذي مارسته ماجدات فلسطين مستمد من نموذج قرآني فريد؛ نموذج زوجة عمران التي نذرت حملها خالصا لله رب العالمين ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: 35].
والحقيقة لا تنذر ما في بطنها لله إلا من آمنت بمهام الاستخلاف، فتبذل قصارى جهدها في بناء جيل رباني رسالي من خلال وظيفتها الوجودية «الأمومة».
والمرابطات مارسن هذا الدور بتجنيد الجيل الجديد والناشئة والكبار أيضا لإعمار بيت المقدس، وبنائهم بناء قرآنيا رساليا من خلال مصاطب العلم ليكونوا وقود المقاومة ونارها التي تصلي المحتل، في الوقت الذي يبذل فيه الاحتلال خاصة والغرب عامة جهودا جبارة لطمس هوية المسلمين وابعادهم عن دينهم ليقينهم أنه سر قوتهم.
وقد تعرضت حارسات الأقصى لتنكيل المحتل من خلال الضرب والسحل والابعاد عن الأقصى والتهديد باعتقالهن واعتقال أزواجهن وأبنائهن، ولم يثنهن هذا الإرهاب عن إعمار الأقصى عبادة وتعليما وتحصينا للأمة ضد عوامل الضعف والخور، ويشاء ربك أن تتحول المحنة إلى منحة، فأصبحت المرابطات لسان الأقصى الذي يتكلم عن قضيته للرأي العربي والعالمي، وايصال أخباره وتوثيقها لكل من يهمه أمره، وكن يده التي يبطش بها ضد مدنسيه، وهكذا طارت أخبار الأقصى وما يحدث فيه في كل مكان وصرنا نتابع أخباره وكأننا بينهم.
إن مشهد المرابطات وهن يعمرن ويدافعن عن المسجد الأقصى ساهم في إعادة الوعي للأمة بوظيفتها الحضارية هذا من جهة، ومن جهة أخرى أحيا نموذجا آخر الإنسانية اليوم في أشد الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، نموذج مريم البتول المنقطعة للعبادة وخدمة بيت المقدس، نموذج المرأة التي تحلق في عالم الروح، هذا النموذج يعيد لوعي الإنسانية أن المرأة لم تخلق لتعبد ذاتها من خلال التفاني في خدمة جسدها؛ وأن وظيفتها لا تنحصر في الاستهلاك واستعراض هذا الجسد، فيتضخم أناها فتسقط ويسقط المجتمع في وحل الغرائز، وتدخل الإنسانية في الضنك العاطفي، لأن المرأة(الأم) هي مخزن العواطف الإنسانية، وإذا نضب هذا النهر الجاري جف منبع النسل الإنساني، كما حدث في أوربا العجوز وامكانية حدوثه في بقية أنحاء العالم قائمة اليوم بقوة.
إن صورة المرابطة وهي تصطحب أبناءها لساحات الأقصى وتحوله إلى بيتها الذي تقضي فيه نهارها بين عبادة وتعليم ورباط وتصد للمقتحمين، يعيد للأذهان صورة مريم العفيفة والأم، ويعيد للإنسانية نموذج العفة والأمومة الذي كادت تطمسه المادية والاستهلاك والنسوية، ويرتقي بالوعي الإنساني من وحل الطين والمادة إلى عالم الروح والقيم.
إن الرباط النسوي اليوم لا يخدم بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فقط، ولا يصنع جيل المقاومة في فلسطين فقط من خلال إعادة بناء الجيل الجديد في المصاطب، بل إنه يسهم في طرح نموذج نسوي مغاير لما روجت له العولمة ووسائل الاعلام والتواصل الحديثة، نموذج نسوي جديد يحمل سمات وخصائص الرسالة الخاتمة، مؤهل لإنقاذ الإنسانية اليوم من بهيمية الحضارة الغربية وماديتها.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة