النية الصّالحة بقلم: محمّد الغزالي
القلب الموقن بالله الراكن إليه جدير بالتوفيق والاهتداء إلى الصواب، قال تعالى: ((ومن يؤمن بالله يهد قلبه))، أما القلب الفارغ من ربه المليء بالأهواء فهو يخبط في الحياة خبط عشواء مصداق قوله تعالى: ((إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله)).. وعامة الناس يعرفون أن النية الصالحة تنقذ صاحبها من ورطات شتى، وأن النية المدخولة يصحبها العثار والشرود، وقد وعد الله المؤمنين الأتقياء بأنه جاعل لهم نورا يمشون به، فمن أدركه شعاع من هذا النور لزم الصراط السوي، وتجنب المزالق المخوفة ((ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)).
وقد أوضح النبي –صلّى الله عليه وسلّم- أن المؤمن الصالح يضاء من داخله فقال: “التقوى ها هنا” مشيرا إلى صدره، أي إن التقوى ليست شقشقة لسان، ولا براعة تمثيل، ولا طول ادعاء، إنما هي قلب مخبت، مفوض إلى الله، متشبث به.. وعدد من الناس يجيد تقليد الصالحات وإتقان أدائها، ولكنه محجوب عن معناها، محروم من آثارها الطيبة، والسبب قسوة قلبه، وانشغاله بأعمال دون ذلك.. وقد كنت أجفل من أناس في أفئدتهم غلظ، وفي أخلاقهم قسوة، وإن أتقنوا بعض الفرائض، لأن حسن الظاهر لا يغني عن طهارة الباطن ووضاءته.. وعند التأمل أشعر بأن بعض الساسة أو الرؤساء يعبد نفسه، وهو يتظاهر بعبادة ربه، وقد يدور حول مأربه وهو يباشر أعمالا عامة، وهذا القصد المغشوش من وراء أخطاء هائلة تدفع ثمنها الشعوب.
كان أبو جهل يستطيع العودة بقومه دون أن يمرغهم في هزيمة بدر، وما كان لهذه المعركة معنى بعد أن نجت القافلة التي هرعوا لاستنقاذها، ولكن ميل أبي جهل للزعامة والظهور جعله يقول: “لن نبرح حتى نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتغني القيان”. فكان هذا الغرور هو الذي قاده وقومه إلى الهلاك.. إن كثيرا من العقد النفسية يكمن وراء المسالك المشؤومة والمقررات الدمية! ولو اجتهد كل إنسان في إصلاح باطنه وتطهيره من العلل الخفية – أو من الشرك الخفي كما وردت التسمية في بعض الآثار- لنجت البلاد والعباد من مآسي كبرى.. ومعروف في ميدان التدين أن الله ينظر إلى البواطن لا إلى الصور، وأن مكانة العابد تتقرر له من استقامة سريرته، وصفاء قلبه، وصدق معاملته لربه: ((أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين))، وقد تدبرت الآية التالية لهذه الآية فوجدتها تنوه بالعاطفة الوجلة، والمشاعر الرقيقة، والإنسان المتحرك بخشية الله، البعيد عن الأثرة وحب العاجلة: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)).
ذُكِرَ لي شخصان نزلا بإحدى المدن، أحدهما له دقة فقيه، وفكر فيلسوف، ولكنه أناني شحيح، والآخر محدود المواهب ولكنه بشوش سمح اليد! فقلت: سوف ينهزم الفقه، ويضيع الفكر مع الضيق والكزازة، وسوف يغلب القصور مع بشاشة الوجه وبسط الكف! وفي معركة الإيمان مع الكفران ألحظ أن بعض الكهان فدائي، وأن بعض العلماء أناني، فأتشاءم من سوء العاقبة، وأعلم أن الدائرة سوف تدور على الحق! إن الدين أبعد شيء عن القسوة والفظاظة والكبرياء والحرص، هذه خصال ما وضعت في كفة إلا هوت بها، وعندما أتأمل في سيرة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- أرى تجسيدا للتواضع والإحسان، والمرحمة والإنصاف، وحب كل شيء، إنه ((عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم))؛ فهل نأخذ الأسوة الحسنة من الإنسان الكامل الذى قيل له: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)). (الحق المر).