بعد 62 عامًا على استرجاع السيادة الوطنية، لا يزال حنين الجنة المفقودة في الجزائر يُراود أحلام الاستعماريين في باريس، حيث تطلّ في كل ذكرى رؤوس الاحتلال المشؤوم بالمنّ على الجزائريين بالحضارة والمدنية التي جلبتها لهم جيوش الغصب والنهب، حتّى إن عميد رؤساء بلديات فرنسا، جيرار تاردي، دعانا قبل سنتين إلى “شكرها على ما تركته قبل أن ترحل بدل البصق عليها”.
أولا، ينبغي التأكيد على أن كلّ ما خلفه الاستعمار البغيض من بُنى تحتيّة إنما تمّ تشييده بثروات الجزائر وسواعد أبنائها، ولكن لأغراض احتلاليّة محضة، ضمن مخطط تأبيد الاستعمار، ولم تكن أبدا في خدمة “الأهالي” المحرومين من أبسط حقوق الحياة الطبيعية، قبل أن يضطرّ الاحتلال إلى المغادرة تحت خيبة الهزيمة العسكريّة. وعليه، فإنّ مجرد وجودها في أي بلد ليس دليلاً على خيرية مستعمِره وحسن نيته.
ونعود الآن إلى الوقوف على ما جاء به الفرنسيون إلى الجزائر في 1830، لنعرف عن أي حضارة وإنسانية يتحدثون، وقد شهدت كتابات المعاصرين منهم، مثل إسماعيل أوربان وويسلون إيسترهازي على أن جنود الحملة الفرنسية كانوا من الفلاحين الجهلة تماما، وقد أثبتوا أن عدد المتعلمين في الجزائر كان يفوق نظيرهم في فرنسا عندئذ، وهي التي بلغت فيها الأمية نسبة 45 بالمئة.
ويستعرض أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، في كتاب “الحركة الوطنية الجزائرية”، تلك الخلافات الحادّة التي نشبت بين الفرنسيين عما نهبوه من خزينة الجزائر عند دخولها، والطريقة التي عالجها بها قائد الحملة دي بورمون، حتّى وصلت أصابع الاتهام إليه هو، بل إلى ملكه شارل العاشر، ثم إلى الملك لويس فيليب، أما جنوده وضباطه فقد اتهم كل منهم الآخر، لتصبح قصة النهب حديث الصحافة الفرنسية والتقارير السرية، فمتى كان اللصوصُ ناشري حضارة؟ ثمّ علق شيخ المؤرخين بالقول “لو كنت من أصحاب السلطات والصلاحيات لطالبت فرنسا اليوم وغدا بمحتويات خزينة بلادي، ولكن لا رأي لمن لا يطاع”.
كما سجّل مؤرخ الجيش الفرنسي، بول أزال، تخريب الجنود لمدينة الجزائر، وقطع أشجار الحدائق، وخلع أعمدة المنازل لإيقاد النار، وثقب أنابيب المياه لملء أوانيهم منها، وهدم السواقي لسقي حيواناتهم، وتفجير مخزن البارود، ولم يحافظوا حتى على صحَّتهم، إذ دخل منهم 2500 جندي للمستشفى بسبب عدم نظافتهم، فهل كانت تلك الأعمال الترويعية والتخريبية نشرا لقيم الإنسانية؟!
وشرعوا منذ الوهلة الأولى في تغيير الشوارع وأسمائها وتحويل المساجد إلى كنائس ومخازن ومستشفيات، وتهديم بعضها نهائيا، ونفس الموقف كان مع المدارس والكتاتيب العربية، ثم سرقوا مدفع بابا مرزوق الذي طالما زرع الرعب في قلوبهم، فأرادوا الانتقام من رمزية الجهاد الإسلامي ضد الغزوات الصليبية الفاشلة قبل الاحتلال، فهل كان طمس معالم المدن والتدخل في القيم الوطنية من آثار التمدين الفرنسي للجزائر؟
ولم تسلم من وحشيتهم حتى مقابر الموتى، فقد أمر الدوق دو روفيقو سنة 1832 بتخريب المقبرة الإسلامية، بدعوى مدّ طريق بين قلعة بوليلة وباب عزون، حيث لم يتورَّع المهندس المكلف بالحفر عن تقطيع عظام الأضرحة إلى نصفين، في مشهد اهتزت له مشاعر الفرنسيين أنفسهم من المشاركين في العملية.
بل هرّبوا عظام الموتى الجزائريين إلى مرسيليا لاستعمالها في فحم العظام وتبييض السكر، في واقعةٍ أثارت الرأي العامّ الفرنسي، وفق ما نقله حمدان خوجة والكاتب الفرنسي المعاصر مارسيل إيمريت، وسجل مؤرخوهم أن الأوروبيين واليهود كانوا يجمعون الأحجار الكريمة والعظام من المقابر بعد مرور المجارف الفرنسية ويسرقون المرمر.
ويعترف المؤرخ يوجين روجان بأن الجنرال بيجو في محاربته لمقاومة الأمير عبد القادر أحرق القرى وأفزع الماشية وأتلف المحاصيل واقتلع البساتين وقتل الرجال والنساء والأطفال ورفض قبول الأسْر.
ويقول المؤرخ فلاديمير لوتسكي إن الفرنسيين استخدموا أشد الأساليب وحشية لإرهاب الشعب الجزائري حتى أبادوا القبائل الموالية للأمير عن بكرة أبيها وقطعوا آذان الأسرى وسبوا الزوجات والأطفال وعرضوا النساء في المزاد العلني مثل الدواب، وقطعوا رؤوس الأسرى لتلقين العرب دروسًا في احترام السلطة الفرنسية.
بل أدى نير الاستعمار إلى كارثة اقتصادية حتى عمت المجاعة بين عامي 1868 و1870 واقتات الناس من الحشائش، ومات خُمس السكان (نصف مليون ضحية) في ست سنوات من المجاعة والأعمال الوحشية.
لذلك، اعترف المؤرخ الفرنسي روبير شنيرت بأن الاستيطان في الجزائر لم يكن ليتحقق إلا على حساب السكان الأصليين، والذين لم يتطوَّروا تطوُّرا يستحق الذكر، ولم يستفيدوا من مؤسسات الحماية والتربية، بل لم يفتتح أول مستشفى لهم إلا بعد مرور 60 عاما بعد ما فتكت بهم الأمراض، فهل تستحق فرنسا الشكر أم البصق على تلك الجرائم؟
في ضوء تلك الجرائم التي ربما قلَّ مثيلها في التاريخ الحديث، يمكن للأجيال الجديدة أن تفهم لمَ تتشبث القيادة الوطنية للبلاد بتسوية ملف الذاكرة مع فرنسا قبل الحديث عن أيّ آفاق تجاه المستقبل بكل أبعاده، لأن القبول بالأمر الواقع سيكون تفريطًا غير وارد في أمانة الشهداء وانبطاحًا للمستعمر البغيض تأنفه عقيدة الجزائري الحرّ.
سبق نشره مع تصرف طفيف
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.