كثرت النصوص الدالة على وجوب صلة الأرحام، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم كقوله تعالى: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض» [البقرة: 27] وقوله: «والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء العذاب.» [الرعد: 21] وقوله: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.» [محمد:22].
والقارئ لهذه النصوص يمكن أن يلحظ أن ثمة بعدا عقديا من المهم التركيز عليه وهو:
أولا- اشتقاق الرحم من أحد أسماء الله تعالى الحسنى، وهو الرحمن الرحيم: فأن يتفضل الله عز وجل على الناس، فيسمي هذه العلاقة بأحد أسمائه الحسنى؛ فهذا له دلالات كبيرة ومهمة. فهو يظهر أن الأصل في العلاقة أو الصلة بين الله عز وجل والمؤمن هي صلة الرحمة. يقول سيد قطب: «إنّها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء . إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة.» يعني أن الله عز وجل هو الإله الذي نجد عنده الحب والحماية والرعاية. وهذا ما يفترض أن نجده بين الأرحام. فالأصل أن الرحم هي علاقة تملأها الرحمة والحب والرعاية والطمأنينة.
إنّ الرحمة التي يجدها المؤمن عند الله عز وجل هي ذلك الشعور بالأمان وبالحماية والرعاية، وهي بهذا السمو والرفعة تحمل إشارة إلى أن العلاقة التي تأخذ تسميتها من اسم الله تعالى بين الناس ينبغي أن تأخذ من رحمته تعالى تلك القيم . وأي إفساد أو تشويه لهذه العلاقة يعني أن ثمة فساد أو خلل في العلاقة مع الله تعالى.. وهذا الخلل مبدؤه خلل في العقيدة؛ بوصفها المحرك والضامن لعلاقة صحية وسليمة مع الله عز وجل ومع الغير بصورة تلقائية. وما لم يتم تصحيح الأولى فلن تسلم الثانية.
إنّ بعض الناس وتحت مسمى صلة الرحم يخطئون؛ فتراهم يكثرون الزيارات والمكالمات والقبلات في الأعياد والمناسبات وغيرها… من دون الانتباه إلى ضرورة تنقية القلوب والأعمال من الحقد والحسد والنفاق والكراهية والنميمة والغيبة والكذب. إن الجلسة والزيارة والقبلة المليئة بشيء من ذلك هي في الواقع قطع للأرحام لا وصل لها. لأنها لا تجلب أمانا ولا دفئا ولا خيرا، بل على النقيض من ذلك هي تترك وراءها الكثير من الضغائن والأحقاد التي تفضي إلى الكثير من المشاكل.
إنّ الحقيقة التي ترشدنا إليها عقيدتنا هي ضرورة أن تتماهى أفعالنا وسلوكاتنا مع ما تنطوي عليه قلوبنا، وإلا كانت الصورة مشوهة. ولذلك فإن التقبيل والسلام والكلام والزيارة، كفعل سليم ظاهريا مع بقاء تلك الأمراض عالقة، في القلب ستفضي حتما إلى صورة مشوهة لا يمكن أن تسمى صلة رحم. فالحقد والرحمة لا يجتمعان وكذلك لا يجتمع الكذب ولا الكراهية ولا النفاق معها؛ فهذه من الله عز وجل وتلك من الشيطان ومن النفس. وهو أمر يحتاج أن نراجع فيه أنفسنا حتى لا نصور لأنفسنا أننا نصل أرحامنا والحق أننا لا نفعل، بل نكذب ونمعن في الكذب.
ثانيا- هناك نصوص كثيرة تؤكد على أهمية رابطة الأخوة الإسلامية والعقيدة كقوله تعالى: «إنما المؤمنون إخوة.» [الحجرات: 10] وقوله تعالى مخاطبا نوحا عليه السلام: «إنه ليس من أهلك.» [هود: 46] وهذا يعني أن كثيرا منا قد يجد الأمان والحب في غير الأرحام. لكن الأخوة الإيمانية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون بديلا عن الرحم. إنها تسد فراغا وتسكن ألما وجروحا، لكنها لا تعالج المرض من جذوره. إن ما يعالج المرض هو حضن الأخ ودفء قبلة الأخت والجلسة المليئة بالأمان مع الخال والعم والخالة والعمة. وبالتالي فإن الأخوة الإيمانية، على أهميتها ودورها، ليست بديلا بأي حال من الأحوال.
خلاصة القول: أدعو إلى تعديل خطاب الرحم وتمتينه عن طريق ربطه بالبعد العقدي، وببيان أثره النفسي على الأفراد خاصة داخل الأسرة. وما تخلفه في كثير من الأحيان من أمراض نفسية كالاكتئاب وفقدان الثقة في النفس، والهروب إلى الشارع والبحث عن بدائل في المخدرات وغيرها من الآفات. وصلى الله على سيدنا محمد.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.