في قرون العزّ والتّمكين، كانت شهادة “لا إله إلا الله، محـمد رسول الله” هي الرباط الذي يربط أقطار الأمة بعضها ببعض، والوشيجة التي تجعل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كالجسد الواحد، وكانت كافية ليستحقّ قائلها النصرة، ويتوجّب على المسلمين أن يتداعوا لمؤازرته إن هو ظلم في دينه، كما كانت هذه الكلمة شعلة تشحذ الهمم وتلهب العزائم لتبليغ الدين ونصرة المسلمين في كل مكان.
هذا ما كان عليه الأمر في قرون مضت، حتّى كانت المرأة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، تنادي من عمورية (ضمن الأراضي التركية حاليا)، فيتحرّك لها جيش المسلمين من بغداد لينصرها، من دون سؤال عن المذهب الذي تتبعه، وما إن كانت موحّدة أم في عقيدتها خلل؟ سنية أم مبتدعة؟ كانت الشهادة التي لا تحتاج إلى توقيع مخلوق أو إمضائه، ولا إلى لجنة للنّظر في مدى صحّتها؛ كانت أقوى من جواز السفر الديبلوماسي في زماننا هذا.. ما كان يفرض على أحد أن ينطق بها مكرها، لكنّه متى ما نطق بها أعطته كلّ حقوقه من دون نقصان.
هكذا كانت السيرة ومضت المسيرة، لكنّ فئة من هذه الأمة، في زمان الضعف والوهن الذي ابتلينا به وابتلي بنا، أساءت توظيف “التوحيد والسنة”، وأحلّتهما محل الشهادة الخالدة من دون تخصيص، وحولتهما إلى معول تفريق بين المسلمين، وإلى مخدر يقتـل العزائم ويشل الأركان عن نصرة المسلمين الذين يتعرضون لحرب عقائـدية وجـودية، ويُقدّم المبررات لخذلان المرابطـين [باعتبارهم أهل بـدعة لا ينشرون التوحيد]، والتخلي عن المستضعفين بحجة عدم توفر العدة أو عدم إذن ولي الأمر!
المبتلى بسوء توظيف [التوحيد والسنّة]، حينما يجد الأمة تتفاعل بكل أسى مع ما يحصل في أرض الرباط فلسطين أو في أيّ مكان في هذا العالم، وتُنكر صنيع الخائــنين والخـاذلين؛ يتدخل بكل استعلاء ليذكّر المتحسّرين ببُعدهم عن التوحيد والسنّة، ويرحل بالنقاش إلى مساحة أخرى، فيقول مثلا: لن تنتصر الأمّة ما دامت لم تحقق التوحيد، ولم تحـارب البدع!
وكأن مفهوم هذه الفئة من الأمّة للتوحيد الذي يكاد يقتصر على توحيد الدعاء، ويشتط في جزئيات العقيدة وفروعها، ومفهومها للبدعة الذي يتوسع ليشمل مسائل الخلاف الفقهي؛ من لوازمهما عند هذه الفئة تخدير الأمة وزيادة وهنها وشلّ أركانها!
الله –تعالى- حينما عدّد صفات عباده المؤمنين في سورة “التوبة” بدأ بوصف الموالاة والتناصر، فقال –سبحانه-: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))، ولك أن تنظر كيف قدّم موالاة المؤمنين على فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعلى فريضتي الصلاة والزّكاة، بل قدّمها على حقّه –سبحانه- وحقّ رسوله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- في الطّاعة، وليس معنى هذا أنّ الموالاة تبيح التهاون في فرائض الله أو تسوّغ معصية الله. كلا، ولكنّ التقديم في هذا الموطن من سورة التوبة بالذات التي تتمحور آياتها حول صفات المنافقين، له دلالته في أنّ التواري خلف الانشغال ببعض الأعمال الصّالحة –مهما كانت جليلة- في وقت يتعرّض فيه بعض عباد الله للظّلم والتّنكيل، هذا التواري من أعمال المنافقين الذين يختلقون الأعذار والمبرّرات لأنفسهم في الأوقات التي تستنفر فيها الجموع لإقامة الدّين ونصرة المؤمنين.
مؤسف أن يتعرّض “التّوحيد” الذي هو سنام الدّين، للتبعيض، فتؤخذ بعض لوازمه لتُبرَز وتبروَز، وتؤخّر لوازم أخرى ويغضّ عنها الطّرف لا لشيء إلا لأنّها لا تعجب النّظام العالميّ الذي يريد للأمّة أن تظلّ ذليلة مهينة تابعة، تبكي عزا لا تتحرّك لاسترداده، ويجلس بعض متفرجا على مآسي بعض! ومؤسف كذلك أن يخاطِب فينا إخوتنا في أرض البلاء توحيدنا وتنادي حرائرهم: “يا أمّة التوحيد”، فإذا بهم يفاجؤون بنا نُشهر في وجوههم بطاقة “التوحيد” لنبرّر خنوعنا وخذلاننا! ويفجعون في إخوان لهم يتّهمونهم بأنّهم لم يحققوا التوحيد! وهم الذين ((أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)).
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.