إسرائيل تهزم نفسَها
الرأي
إسرائيل تهزم نفسَها
ناصر حمدادوش
2024/07/03
هناك جدلٌ عميق حول مستقبل إسرائيل، إذْ أنَّ الكيان الصهيوني لديه وجود وظيفي غربي، قد اشتق الحقَّ السِّياسي والتاريخي من الحقِّ الديني المحرَّف. وقد يكون الحديث عن “زوال إسرائيل” وَهْمًا مبالَغًا فيه، إلاَّ أنَّ قراءة هذا الكيان الصهيوني من الداخل، واستقراء الاعترافات الصَّادرة من عمق منظومته السِّياسية والفكرية والعسكرية والدينية تؤكِّد حالة الشكِّ في مستقبل “إسرائيل”، وهم لا يتحدَّثون عن الخطر الخارجي، وإنما عن هذا الزوال لأسبابٍ داخليةٍ وذاتية.
وبعيدًا عن النُّبوءات المختلفة حول هذا “المصير المحتوم”، إلاَّ أنَّ أهمَّ النبوءات ذات المصداقية والقوة التأثيرية هي التأكيدات على هذه الحتمية من داخل المنظومة اليهودية ذاتها، فقد أعلنت قياداتٌ سياسية إسرائيلية ورموزٌ فكرية صهيونية ورجال دينٍ يهود عن هذا الرَّعب، والمتمثل في “لعنة العقد الثامن”، إذ يؤكّدون أنه لم تعمِّر دولةٌ في التاريخ اليهودي أكثر من 80 سنة، فتعالت أصواتُهم صُراخًا وهم يقتربون من هذا العقد في حدود سنة 2028م بالتقويم الميلادي، يقول الكاتب الصحفي “آري شافيت”، الذي استعرض في كتابه “البيت الثالث” -إشارةً إلى “دولة إسرائيل” الحالية- كيف أصبح الإسرائيليون: “العدوَّ الأكبر لأنفسهم في العقد الثامن من استقلال الدولة العبرية”، ثم يجزم ويقول: “لن يكون هناك بيتٌ رابع.. إسرائيل هي الفرصة الأخيرة للشَّعب اليهودي”. ومن ثمّة، فإنَّ القلق من “زوال إسرائيل” هو يهوديٌّ ذاتيٌّ بامتياز، وقد تأسَّس على حالة الشكِّ في مستقبلها كدولةٍ يهودية.
وبالرَّغم من كون إسرائيل هي معجزةُ الصهيونية في العصر الحديث، وذلك بتأسيس دولةٍ من العدم سنة 1948م، وهي قصةُ نجاحٍ نادرةٍ لليهود، إلا أنَّها ممزَّقة وهي الآن تنزف، بعد أن دخلت في أزمة المستقبل المجهول والمصير المأساوي، يقول الرئيس السَّابق لجهاز الموساد: “بينما كثُر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق إسرائيل، فإنَّ التهديد الأكبر يتمثَّل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آليةِ تدميرِ الذَّات التي جرَى إتقانُها في السنوات الأخيرة، مما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة.. لأنَّ إسرائيل تنهار ذاتيًّا”، ويقول المحلّل الإسرائيلي المخضرم “آري شافيط” في صحيفة “هآرتس”: “اجتزنا نقطة عدم العودة، وإسرائيل تَلفُظ أنفاسها الأخيرة، ولا طعم للعيش فيها، والإسرائيليُّون يُدركون مُنذ أن جاءوا إلى فلسطين أنهم ضحيَّة كذبةٍ اختَرعتها الحركة الصهيونيَّة..”، ويدعِّمه الكاتب اليساري “جدعون ليفي”، فيقول في الصحيفة ذاتها: “إنَّنا نُواجه أصعب شعبٍ في التَّاريخ، وعمليَّة التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائيَّة، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديديَّة ولا بالأسوار ولا بالقنابل النوويَّة”، ويقول الكاتب “جدعون ليفي”: “إنه لن يستطيع أحدٌ وقف عملية التدمير الذاتي الداخلي الإسرائيلي، فمرض إسرائيل السرطاني قد بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه
والأبحاث العلمية والاستقراءات الواقعية والشَّهادات التاريخية -ومن خارج المنظومة المعرفية الإسلامية- بدأت تأخذ طريقها إلى العلنية والرَّسمية بسنواتٍ قليلةٍ جدًّا، وذلك بطرح التشكيك الفعلي في المستقبل الوجودي للكيان الصُّهيوني، ففي العام 2002م طلعت علينا أشهرُ المجلات السِّياسية الأمريكية، وهي مجلة “نيوزويك” لتتحدَّث عن أنَّ الدراسات واللقاءات التي أجرتها مع الكثير من المؤرِّخين الإسرائيليين وغيرهم تُثبت بأنَّ “إسرائيل” دولةٌ بلا مستقبل.
ولا نبالغ إذا قلنا إنَّ مصطلح “الحرب الأهلية” هو الأكثر شيوعًا في الخطاب الصُّهيوني الآن، بعد أن تأجَّجت نيران الصِّراعات الداخلية بين “الدولة العميقة” العلمانية و”التيار الدِّيني المتصاعد” المسيطر على الحكم اليوم. يقول الرئيس السَّابق لجهاز المخابرات الداخلية (الشَّاباك) في أكتوبر 2022م في مقالٍ له في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعنوان: “على شَفَا حربٍ أهلية”، ووصف “نتنياهو” يوم 27 مارس 2023م قرار تأجيل الإصلاحات القضائية بأنَّه “فرصةٌ لتجنُّب حربٍ أهلية”، كما عبَّر وزير الدِّفاع السَّابق “بيني غانتس” عن خشيته من اندلاع حربٍ أهليةٍ تؤدِّي إلى تفكُّك إسرائيل من الداخل، وهو التدميرُ الذاتي الذي دفع بهم إلى دقِّ ناقوس الخطر الوجودي، وهو ما يؤكده كذلك الرئيس الصُّهيوني “هرتسوغ” إذ يقول: “ما يحدث كارثةٌ حقيقيةٌ، وبلادنا تنهار أمام عينيّ”، ويضيف: “الوضع يتَّجه إلى نقطة عدم العودة، وإسرائيل تمرُّ بأزمةٍ تاريخيةٍ تهدِّد بتدميرها من الداخل”.
يقول المحلّل الإسرائيلي المخضرم “آري شافيط” في صحيفة “هآرتس”: “اجتزنا نقطة عدم العودة، وإسرائيل تَلفُظ أنفاسها الأخيرة، ولا طعم للعيش فيها، والإسرائيليُّون يُدركون مُنذ أن جاءوا إلى فلسطين أنهم ضحيَّة كذبةٍ اختَرعتها الحركة الصهيونيَّة..”، ويدعِّمه الكاتب اليساري “جدعون ليفي”، فيقول في الصحيفة ذاتها: “إنَّنا نُواجه أصعب شعبٍ في التَّاريخ، وعمليَّة التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائيَّة، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديديَّة ولا بالأسوار ولا بالقنابل النوويَّة”.
ولا تزال التأكيدات على هذه الحقيقة، وهي أنَّ إسرائيل تهزم نفسها بنفسها كما تؤكده الكتابات الغربية، فقد أكد الموقع الأميركي “كاونتربانش” في تقريرٍ له أنَّ مخاطر اندلاع “حرب أهلية” باتت تهدِّد إسرائيل، وأنَّ أسباب ذلك أعمق من مجرد ربطها بالحرب على غزة أو الصراع مع حزب الله في لبنان، أو حالة العجز أمام تحدي “الحوثيين” في اليمن، ففي عام 2007م أثار “بورغ”عاصفةً مدوية، وهو الشخصية السياسية اليسارية المرموقة في إسرائيل، إذْ تقلد منصب رئاسة الكنيست لأربع سنوات، ورئاسة الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل، والمنظمة الصهيونية العالمية، حين نشر كتابه “هزيمة هتلر”، في تشبيهٍ مستفز بين حال إسرائيل اليوم بحال ألمانيا النازية بالأمس قُبيل هزيمتها، ويقول إنَّ الدولة باتت تحت رحمة أقلية متطرفة، وأنَّ “إسرائيل” هي “غيتو” صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته”.
والصراع الداخلي في إسرائيل هو أعمق من مجرد الصراع الإيديولوجي بين اليمين الديني المتطرِّف (متمثلاً في نتنياهو وحلفائه)، وبين التيار اليساري العلماني الغربي، أي بين “الهوية والديمقراطية”، وذلك في إعادة تشكيل الطبيعة المستقبلية لإسرائيل، والخطر الداخلي والهزيمة الذاتية تهدِّدها علاقة السلطة السياسية بالجيش، وخاصة بعد أن خرج ذلك للعلن على خلفية الهزيمة المدوّية في معركة “طوفان الأقصى”، إذ هاجم “نتنياهو” جنرالات الجيش، قائلاً: “إسرائيل دولةٌ لها جيش، وليست جيشًا له دولة”، وهذا الصراع يتناقض مع الحقيقة التاريخية، وهي أنَّ إسرائيل تأسَّست واستمرت في البقاء من خلال الجيش والحرب، وهذا ما يفسر مكانة الجيش الخاصة في الكيان الصهيوني، إذ يتمتع بامتيازات خاصة في صناعة القرار السياسي، وهو ما يثبته تاريخ وصول كبار قادة الجيش إلى أهم المناصب السياسية للسلطة، مثل: “ديفيد بن غوريون” و”أرييل شارون” و”إيهود باراك”. وما يقوم به “نتنياهو” الآن في إعادة هيكلة المؤسسات السياسية الصهيونية هو تهميشٌ للجيش وتجريدٌ له من مركزيته في الكيان، ما يخلُّ بالركيزة الأساسية للتوازن السياسي الإسرائيلي المستمر منذ 1948م. وهو ما أعاد الحديث مجددًا داخل إسرائيل عن “الحرب الأهلية”، والخلافات تتعمق يومًا بعد يوم، وخاصة بعد هذا المأزق الاستراتيجي الذي وضعته فيه المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، وفي جبهات الإسناد في لبنان والعراق واليمن وإيران، وهو ما قد يجبر الجيش على التخلي عن هذا التوزان التاريخي، بما يعزِّز مقولة أنَّ “إسرائيل تهزم نفسها”، وتهدِّد مستقبلها بذاتها.
لقد أثبتت الحقيقة القرآنية أنَّ عوامل التدمير اليهودي تتحالف فيها ثلاث قوى، وهي مَن ستحسم مستقبل الكيان الصُّهيوني، وذلك استنادًا إلى قوله تعالى: “..فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ، فَٱعْتَبِرُواْ يا أُوْلِى ٱلْأَبْصارِ” (الحشر:02)، والعامل الذاتي “بأيديهم” متقدِّمٌ عن السبب الخارجي “وأيدي المؤمنين”.
فالتدمير الصُّهيوني الذَّاتي يقوم على كون هذا الكيان قد قام على هجرة يهود العالم إليه، وهو الآن يشهد هجرةً عكسيةً لعدّة أسبابٍ واعتبارات، وعلى رأسها عدم الشعور بالأمان فيه، وقد عمَّقت معركة “طوفان الأقصى” ذلك، وزادت في ظاهرة الفرار من الخدمة العسكرية، بعد أن اتخذت هذه الخدمة طابع القداسة الخاصة، إلاَّ أنَّ الوضع تغيَّر بعد سقوط نظرية الأمن الإسرائيلي، فإسرائيل اليوم تعيش حالةً من عُقم الانتصارات، وسقوط عقيدة “الدفاع عن النفس”، والعجز عن امتلاك القوة الذاتية بعد 76 سنة من قيامها، ولا تزال تبعيتها مزمنةً للدول الغربية في قوتها وانتصاراتها وبقائها، بل هي الآن تخسر العالم، وقد تورَّطت كعادتها فيما يُدينها، مما يزيد في انهيار صورتها وسقوط سردياتها التاريخية، بل وتخسر التحالف الاستراتيجي وعلاقتها التاريخية مع أمريكا التي تخسر بدورها استحقاق تأبيد هيمنتها على العالم.