لا نستبعد صحة الأخبار المتداولة هذه الأيام بشأن ممارسة بعض الدول العربية ضغوطا هائلة على “حماس”، للقبول بمبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن المتعلقة بصفقة الأسرى، فالواقع أنّ هذه الضغوط ليست جديدة، بل مارسها بعض العرب على الحركة طيلة تسعة أشهر من الحرب والمفاوضات المتعثّرة غير المباشرة.
خلال هذه المدة الطويلة، سيّرت “حماس” الضغوط المتواصلة عليها بهدوء وأناة وصبر وذكاء، وأبدت ثباتا كبيرا على مبادئها وشروطها لإطلاق سراح الأسرى الصهاينة، وفي مقدّمتها الوقف الكامل لإطلاق النار، والانسحاب الكلي لجيش الاحتلال من غزة، وعودة النازحين جميعا إلى أحيائهم وبيوتهم من دون قيد أو شرط، وإطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين وفي مقدّمتهم ذوي الأحكام العالية كمروان البرغوثي وكل من حكم عليه بالمؤبد، والاتفاق على خطة لإعادة إعمار غزة، ورفع الحصار المتواصل عليها منذ 17 سنة كاملة. وتمسّكت “حماس” بهذه الشروط ورفضت تقديم أيّ تنازل جوهري، برغم الضغوط الهائلة التي مارسها عليها الوسطاء العرب بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وصلت إلى حدّ التلويح بطرد قادتها السياسيين من قطر إذا رفضوا التنازل عن بعضها باسم “المرونة”.
واليوم يعود الحديث عن بعث المفاوضات غير المباشرة بشأن الأسرى وممارسة ضغوط رهيبة على “حماس” للقبول بـ”تعديلات” جديدة أدخلها الأمريكيون على مبادرة رئيسهم، لكنّ الملاحظ أنّ هذه التعديلات لا تتحدّث عن وقف دائم لإطلاق النار ولا سحب قوات الاحتلال من غزة، ما يعني بوضوح أنّ الولايات المتحدة قد رضخت لتعنّت نتنياهو وشروطه وصاغت التعديلات على مقاسه؛ فمنذ أشهر، ورئيس وزراء العدو يرفض وقفا دائما للحرب ويعرض فقط هدنة مؤقتة وانسحابا جزئيا من القطاع ويصر على عقد صفقة لتبادل الأسرى ثم استئناف الحرب بعد ذلك للقضاء على “حماس”، فكيف تقبل الحركة إذن المبادرة الأمريكية “المعدّلة” والحال أنها لا توقف الحرب ولا تضع حدّا لمعاناة 2.3 مليون من سكان غزة، وليس فيها سوى تلاعب بالكلمات للإيحاء بأنّها تحمل جديدا وما هي في الواقع إلا خدعة وفخ آخر للإيقاع بـ”حماس”؟
نفهم أن تعيد الولايات المتحدة صياغة مبادرتها لتستجيب أكثر لشروط نتنياهو، فهي بلد منحاز للاحتلال بشكل سافر في هذه الحرب وشريك أساسي فيها، ومسؤول عن المأساة الحالية في غزة، لكن لماذا يرضخ العرب لضغوط أمريكا ويضغطون بدورهم على “حماس” للقبول بهذه المبادرة المذلة؟ هل حاربت “حماس” طيلة 9 أشهر ودفعت هذه التضحيات الجسيمة لتستسلم في الأخير وتقبل بعقد صفقة تبادل مهينة وفق شروط الاحتلال؟
في الواقع، ليس هناك ما يجبر “حماس” على القبول بصفقة تكتب بها نهايتها السياسية وحتى العسكرية؛ فـ”القسّام” وبقية فصائل المقاومة صامدة في الميدان، وهي تذيق بأسها للعدو كل يوم، وحرب الاستنزاف تسير في صالحها، وجبهات الإسناد في اليمن وجنوب لبنان والعراق تصعّد عملياتها يوميا على الاحتلال وحلفائه، وكل يوم يمر من هذه الحرب يشتد فيه الضغط على العدو أكثر؛ إذ تتعمّق الانقسامات الصهيونية الداخلية، وتتصاعد مظاهرات أهالي الأسرى الصهاينة ضد نتنياهو وتتعالى المطالب بإسقاط حكومته، وتتفاقم متاعب الاقتصاد، وتتزايد الخسائر البشرية والمادية للجيش، ما دفع بالمئات من جنوده إلى الهجرة هربا من القتال، و900 ضابط احتياط من رتبتي مقدّم ونقيب طلبوا الخروج من الخدمة، كما طالب كبار جنرالاته بوقف الحرب حتى لو بقيت “حماس” في الحكم، حسب “نيويورك تايمز” الأمريكية.
هذا هو الوضع على حقيقته، ونأمل أن تواصل “حماس” الثبات في معركة عضّ الأصابع حتى يصرخ نتنياهو أولا من فرط الألم ويقبل بهزيمته، وكل يوم يمر من هذه الحرب القاسية تقترب فيها المقاومة أكثر من النصر المؤزّر. أمّا العرب، فالأفضل أن يوجّهوا ضغوطهم إلى أمريكا لوقف حرب الإبادة في غزة، وإن عجزوا عن ذلك، فليضغطوا، على الأقل، لإدخال المساعدات الإنسانية بانتظام لإغاثة سكان القطاع الذين يتعرّضون لتجويع جهنّمي وممنهج، بدل أن يضغطوا على “حماس” لتستسلم وتمنح للعدو بالسياسة ما عجز عن افتكاكه بالحرب.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.