في ظلال عيد الاستقلال
الرأي
في ظلال عيد الاستقلال
محمد بوالروايح
2024/07/02
الأمم الكبيرة تولد من رحم المعاناة. حقيقة يثبتها التاريخ ويؤكدها الواقع، فلا يُنال النصرُ إلا على جسر من التضحيات، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق. إن استقلال الجزائر ليس منّة من فرنسا ولا هدية من دوغول كما تزعم بعض الأقلام المأجورة والمصادر التاريخية المضللة بل كان ثمنا لضريبة باهظة دفعها الجزائريون عبر مخاضات عسيرة وثورات كثيرة، ذاق فيها الشعب الجزائري الأمرّين على يد الاستعمار الفرنسي الذي عمل على طمس الشخصية الجزائرية وتزييف التاريخ لتحقيق مشاريع التغريب التي صاغتها الصليبية الحاقدة وتولى كبرَها الحلف الأطلسي.
لقد تحالفت القيادات الدينية والعسكرية في فرنسا ضد الجزائر في زمن ضعفت فيه شوكة الدولة العثمانية وقويت فيه شوكة السلطة الاستعمارية التي بسطت نفوذها على المغرب العربي، وطفقت تنفذ سياستها وتبث سمومها في مجتمع هش ومتهالك، عملت فيه السنون العجاف عملها، وعانى فيها الشعب الجزائري من آثار حربين عالميتين مدمرتين أضحت فيهما لقمة الخبز أغلى ما يتطلع إليه الجزائريون للبقاء على قيد الحياة.
للاستعمار الفرنسي في الجزائر تاريخ أسود شاهد على حقبة مظلمة، طغى فيه لون الدم على كل الألوان، وقضى فيه الألم على كثير من الآمال وذهب ضحيته كوكبة من خيرة الرجال الذين تركوا بصمات لا تمحى وصنعوا بطولات لا تنسى تظل تلهم الساعين إلى المجد والباحثين عن الحرية جيلا بعد جيل.
ليس بين الجزائريين الغيورين على وطنهم من يمجِّد الاستعمار لأن ذلك يعني خيانة عظمى مكتملة الأركان لا تكفِّرها إلا العودة إلى جادة الصواب والبراءة من الاستعمار الذي هو رجسٌ من عمل الشيطان كما وصفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله. هناك في هذا المضمار جهود وطنية كبيرة تُبذل لكشف القناع عن الوجه الحقيقي للاستعمار، ويندرج عمل لجنة الذاكرة ضمن هذا المسعى الذي يروم كشف حقيقة الاستعمار وما خلّفه من دمار على مستوى الإنسان والعمران.
تأتي مناسبة عيد الاستقلال لتذكّرنا بالأيام العجاف التي عاشها الجزائريون وبالألم الذي عانوه دفاعا عن أرضهم وعرضهم ضد استعمار بغيض، استباح كل شيء وخرق كل القوانين السماوية والوضعية من أجل أن يمكِّن لنفسه ويضمن لمواطنيه مكانا تحت الشمس بكل وسيلة، إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة.
إن ذكرى الاستقلال فرصة لتعريف الأجيال الحاضرة بصنوف المأساة وضروب المعاناة التي عانى منها أسلافهم من أجل افتكاك حريتهم وتحرير أرضهم، وهي مناسبة لأخذ الأسوة وتحقيق فكرة تواصل الأجيال ونبذ الصراعات الموهومة والخلافات المصطنعة التي يحاول من يتولون كِبرها نشرها بين الجزائريين ليلعن أولهم آخرهم ولتتحقق بذلك سياسة “فرّق تسد” التي صنعها الاستعمار لضمان بقائه واستمرار سلطانه.
تأتي ذكرى الاستقلال لتذكّرنا بأن الجزائريين أمة واحدة، وبأنهم يد على كل من يسعى لتفريق شملهم والمساس بوحدتهم والاعتداء على مكتسبات ثورتهم التي تحققت بأنهار من الدماء وركام من الأشلاء، من عهد الثورات الشعبية إلى الثورة التحريرية التي حررت الوطن من براثن الاستعمار ومكنت الشعب الجزائري من استعادة سيادته على أرضه وعلى ثرواته الظاهرة والباطنة.
ينبغي أن نتخذ من ذكرى الاستقلال فرصة للرد على مرتزقة التاريخ الذين يعملون على شيطنة الثورة ويثيرون الشبهات حولها وحول سيرة صانعيها بأفكار ما أنزل الله بها من سلطان وبدعاوى باطلة لا يسندها دليلٌ ولا يقوم عليها برهان، غرضهم من ذلك تشكيك الأجيال في عمل الرجال وزرع البلبلة في أوساط الشباب وهي المهمة القذرة التي يتولاها الذباب الإلكتروني الذي يشتغل لصالح الاستعمار ويسعى لتنفيذ أجندته أناء الليل وأطراف النهار.
نحن من جيل الاستقلال، لم نشهد الثورة التحريرية ولكننا متشبِّعون بقيمها النبيلة. قرأنا عن الثورة في الكتب والدواوين ولم نعشها في الميادين، نحن من ثمارها ولسنا من صنَّاعها، ولكن في ميزان الوطنية يستوي الصانعون والوارثون، يستوون في الوطنية رغم اختلافهم في الدرجة، فقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجة “لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما”، (النساء 94).
لا نرضى بشيطنة الثورة ولا بالمساس برموزها ومكتسباتها مع إقرارنا بأنها عمل بشري لا يخلو من هنات فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
ينبغي أن نتخذ من ذكرى الاستقلال فرصة للرد على مرتزقة التاريخ الذين يعملون على شيطنة الثورة ويثيرون الشبهات حولها وحول سيرة صانعيها بأفكار ما أنزل الله بها من سلطان وبدعاوى باطلة لا يسندها دليلٌ ولا يقوم عليها برهان، غرضهم من ذلك تشكيك الأجيال في عمل الرجال وزرع البلبلة في أوساط الشباب وهي المهمة القذرة التي يتولاها الذباب الإلكتروني الذي يشتغل لصالح الاستعمار ويسعى لتنفيذ أجندته آناء الليل وأطراف النهار.
من المفيد ونحن نعيش في ظلال الاستقلال أن أذكّر نفسي وأذكّر كل الجزائريين بالرسائل الخمس للشهيد العربي بن مهيدي، رحمه الله، رسائل تفيض ثورية ووطنية، وتمتلئ إيمانا بوعد الله الصادق. الرسالة الأولى موجَّهة إلى الإدارة الاستعمارية ومن يدافعون عن أفكارها في كل عصر: “إنكم ستُهزمون لأنكم تريدون وقف عجلة التاريخ. وإننا سننتصر لأننا نمثل المستقبل الزاهر”. الرسالة الثانية موجَّهة إلى الجزائريين وخصوصا جيل الشباب: “إذا استشهدنا، فدافعوا عن أفكارنا.. نحن خُلقنا من أجل أن نموت لكي تستخلفنا أجيالٌ لاستكمال المسيرة”.
الرسالة الثالثة موجهة إلى أمه وإلى كل أم جزائرية: “إن عشت بعد الاستقلال، فسأنجب لك كثيرا من الأبناء، وإن أنا متّ يا أمي فالجزائريون كلهم أبناؤك”. الرسالة الرابعة موجهة إلى الثوار ومن يخلفهم: “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”. الرسالة الخامسة موجهة إلى نفسه، يرغِّبها في الشهادة ويوجِّه من خلالها رسالة إلى كل جزائري أن يبذل في سبيل الوطن كل غال ونفيس: “أريد أن أعذَّب حتى أتأكّد أن جسدي البائس لن يخونني”. إن الشهيد العربي بن مهيدي، رحمه الله، يتمثل هنا قول الله، تعالى: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم”، (التوبة 111).
أيها الجزائريون، هلموا إلى ظلال الاستقلال، فهي العاصم من كل فتنة، والمانع من كل فُرقة، والحافز لكل اجتماع، والحافظ للوحدة، والمعين على التمسك بقيم الثورة. إن ثورتنا هي ثروتنا، التي نستلهم منها الدروس ونستخلص منها الأسوة ونأخذ منها القدوة، فلا يصرفنكم عنها كاتبٌ دجال ولا مؤرخ محتال، يستهويه استغلال الظروف وتفريق الصفوف وبلبلة الأفكار وتخريب الديار كما هو ديدن من سبقهم، تشابهت قلوبهم: “يخربون بيوتهم بأيديهم”.
أيها الجزائريون، إن ذكرى الاستقلال فرصة لاستكمال المسيرة وتحقيق أهداف الثورة، وهي التحرر من التبعية في شؤون الاجتماع والسياسة والاقتصاد، فنحن مجتمع جزائري مسلم، ديننا الإسلام ووطننا الجزائر، فعلينا أن نذود عنهما بكل ما أوتينا من قوة، فشرف الدين شرفٌ لنا وسؤدد الوطن سؤددٌ لنا. إن من مقتضيات الاستقلال أن نحقق اكتفاءنا الذاتي وأمننا الغذائي وأن نطور الاقتصاد الوطني وأن تكون لنا بصمتنا السياسية النابعة من قيم ديننا والمستلهمة من بيان أول نوفمبر ومن دساتيرنا.
رحم الله شهداء الجزائر وجزاهم عنا خير الجزاء “ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، (آل عمران 169).