لقد رأينا في تجاربنا مع الأيام أن الحق غريب مستوحش، فقد نحسب خدمة الحق لا تعدو تقريره، وكشف النقاب عنه. وهذا خطأ ضخم، فإن تثبيت الحق كإحياء جسم ما، أو إدارة آلة ما، لابد له من جهود دائبة مضطردة، وإلا أذابه الباطل، وجرفه في تياره! في القضايا الصغيرة، قد يحلف الشخص زورا: أن ما قاله صحيح، ليغتصب مالا حراما، أو يستصدر حكما حائفا. وعلى ظهر الأرض كوف المحاكم لمتاعبة هذه المغالطات، ومحاولة حراسة الحق.
وفي القضايا الكبيرة تقوم السياسة بين الدول على محور لا يمت إلى الحق بصلة. لقد استطاع اليهود أن يجيئوا بعشرات الدول معهم على أن العرب أصحاب فلسطين لا مكان لهم فيها! واستطاعت دول الغرب الثلاث -خلال هذه الأسابيع- أن تجلب بضع عشرة حكومة معها لتثبت أن مصر- صاحبة “قناة السويس”- لا تملك إدارتها، ولا تستحق السيادة المباشرة عليها! ومن الممكن- تحت إغراء الدولار، أو وطأة القوة- جمع خمسين دولة للقول بأن لله ولدا، أو أن البعث بعد الموت خرافة.. ودعوى القوى كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها! ولا شك أن الحق شيء وراء الرغبة والرهبة، والقلة والكثرة، والحاجة والاستغناء، والغرابة والألف. وأدوات البحث عنه والوصول إليه شيء غير السلاح، أو الرشوة، أو الخديعة، أو التغرير.. بيد أن العالم قد تمضي عليه أعصار والعملة الرائجة فيه هذه الأدوات وحدها. ومن ثم يصاب الحق بأزمة تأخذ بخناقة، وتعرضه للتلاشي، حتى تجيئه النجدة على يد ملهم غيور! والعبء الذي حمله النبي الكريم محمد –صلّى اللهُ عليه وسلّم- لا يتمثل في أنه كشف الحق بعد خفاء، وعلمه للناس بعد طول جهل، إن ذلك- وإن عظم- قليل بالنسبة إلى حماية هذا الحق، ونفخ الحياة فيه حتى يقوى على الثبات في عالم يموج بالأباطيل موجا، وتتوارثه عصبيات قائمة، وسلطات جاثمة. أي شعور كان يختلج في فؤاد هذا النبي الكريم وهو يرمق القارات المعمورة على عهده، وهي تصحو وتغفو على نوع من العيش لا يعرف الله، ولا يقيم أمره، ولا يفكر في لقائه. قارات يستبد بها الطيش، ويشيع فيها الجور، وتنتشر خلالها الكهانات الموقرة والحكومات المرهوبة والملوك المقدسون!.
إن خدمة الحق في هذا المجال ليست نصرته في مجلس مناظرة أو تأييده بخطبة بليغة، أو مقالة ساحرة. كلا! فما غناء هذه الوسائل المعقولة في عالم لا يعرف العقل؟ إن نصرة الحق -والحالة هذه- تحتاج إلى تكوين بيئة خاصة، بيئة تفقهه، وتحتضنه، وتفتديه، بيئة يتعهدها صاحبها كما يتعهد رب الأرض زرعه، حتى يستوى وينضج.. وكذلك فعل النييّ الكريم، فقد ربى بالوحي جماعة من الناس استنارت بالحق بصائرها، وكاثرت به الجماهير وهي قليلة، ولم تخش في البقاء عليه والدعوة إليه بطش ذي سلطان، أو حنق ذي عدوان.. وإلى هذه الفئة المؤمنة بالحق، الصابرة على وحشته ومرارته، وكل إبلاغ العالم كله رسالة الله جل شأنه. فمن آمن فله إيمانه، ومن كفر فعليه كفره.
أما أن يمسك السكران بعصاه ليقطع الطريق فلا. أما أن يطلق الأقوياء جنودهم لإحياء ضلالة، أو وأد حرية، أو إقرار مظلمة فلا.. إن الحق منذ نشأة الحضارات على الأرض عانى الآلام الهائلة من الذين ينتهكون حرمته، ويحتقرون حجته، لا لشيء إلا لأن أيديهم حافلة بأسباب البغي.. والذين يقرأون القرآن يعلمون أن “السيف” ليست له إلا وظيفة واحدة، هي التدخل لتحكيم العقل وحده، عندما يراد ترجيح الهوى بالقهر، وتسويغ الحيف بالجبروت.. إن ألف بينة وبينة لم تمنع الفرنسيين من تذبيح أهل الجزائر، وإنكار حقهم المبين. ولم تمنع الرومان قديما من استعباد أهل مصر، وجعلهم خدما ينقلون القمح من مزارعهم إلى السادة في “روما”. فما تكون وسيلة التفاهم مع هذه النواصي الكاذبة الخاطئة إلا أن تجذ، ويراح العالمون من شرورها؟! (الاستعمار أحقاد وأطماع).
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.