يمكن أن يختلف رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، والمتسابقون إلى إدارة البيت الأبيض، في كل شيء يخص السياسات الداخلية وحتى تصريف السياسة الخارجية في أبعادها الإجرائيّة، من دون المساس بجوهرها القائم على تكريس المصالح الأمريكية العليا في كل مكان من الكرة الأرضية، لكن لن يختلفوا مطلقا حول ضرورة حماية واشنطن، بكل ما تملك من نفوذ عسكري واقتصادي وسياسي عالمي، لربيبتها الصهيونية المغروسة في خصر الأمة العربية والإسلامية.
شعار المتعاقبين على رئاسة الولايات الأمريكية منذ عهد هاري ترومان إلى جون بايدن، مرورًا بكل الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين، كان دومًا: إن “إسرائيل وُجدت لتبقى، ولا يمكن تحت أي ظرف التخلّي عن مشروعها الاستراتيجي”.
لذلك لم تكن مستغربة أبدا تلك التنافسيّة الساقطة التي أبان عنها العجوزان بايدن وترامب، خلال المناظرة الرئاسية الأخيرة، في المزايدة بخدمة الكيان الصهيوني والتعهد بتوفير الحماية الكاملة له في الحاضر والمستقبل، مع اختلافهما الظاهر في التوجهات العامة لإدارة شؤون البلاد.
يحدث ذلك، في وقت يعيش فيه العالم الإنساني والقانون الدولي بكل أجهزته الأممية والقضائية، من خلال مأساة غزة، على وقع أبشع جريمة إبادة غير مسبوقة خلال القرون الأخيرة، عبر انتهاك صارخ لحياة الإنسان، وليس فقط حقوقه الطبيعية، بينما تؤدي أمريكا، بكل تبجّح وغطرسة، دور المموّن العسكري الأول بالعتاد الحربي وذخيرة سلاح الدمار الشامل، موازاة مع تبينّيها لشعار الفرية الكبرى: السلام وحلّ الدولتين!
إذا كانت علاقات الدول الغربية ضمن الفضاء الأوربي متأرجحة منذ 1948 بين التحيّز المطلق في الغالب، والتوازن أحيانا بين مسمّى “الحق الإسرائيلي” المزعوم من جهة، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة من جهة أخرى، وفق قاعدة المصالح الأوروبية مع العرب، فإن الأمر يختلف جذريّا بالنسبة للمملكة البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية لأسباب تاريخية واستراتيجية وأخرى عقدية قد تشكل الأساس الصلب في الموقف الحِمائي للكيان الصهيوني بالمنطقة.
كثير من التفسيرات طرحها مفكرون ومحللون لفهم علاقة أمريكا وبريطانيا بـ”دولة إسرائيل” الاستيطانية، تراوحت بين إدراجها ضمن المشروع الإمبريالي الغربي، لضمان وجود قاعدة استراتيجية متقدمة في عمق العالم العربي والإسلامي، من شأنها منع بروز أي قوة إقليمية مستقبلا، يُمكنها تهديد المصالح الغربية الحيوية، خاصة ما تعلّق بحماية منابع النفط، باعتباره المورد الطاقوي التقليدي الرئيس حتى الآن لعجلة الاقتصاد الصناعي والإنتاجي الأمريكي.
ولا شكّ أن هذه المقاربة تنطوي على قدر كبير من الواقعية، بالنظر إلى سياسة الولايات المتحدة الأميركية في الجغرافيا العربية والشرق أوسطية عمومًا، حيث إن كل حروبها وتدخلاتها هناك كانت ضمن دوافع الصراع الدولي على الهيمنة الكونيّة والتنافس المحموم على المصادر الطاقويّة، وهذا ما يجعل من “إسرائيل” ضمن هذا المنظور “دولة وظيفية”، وفق تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري، ومن خلال ذلك يمكن فهم التحيز الغربي المطلق لها، فهو في النهاية دفاع عن المصالح الأمريكية العليا.
بينما يذهب آخرون في فك شفرة الموقف الأمريكي والبريطاني إلى نفوذ ودور “اللوبيّات” الصهيونية وتأثيرها المالي والسياسي والإعلامي، واختراقها لدواليب الإدارة، بمعنى أنها قوة قرار وانتخاب لا يمكن للساسة تجاوزه بسهولة، وهذا أيضا من أوجه القراءة الموضوعيّة للعلاقة، لكنه ليس كافيًا لتبريرها، حيث إن دعم أمريكا وبريطانيا سابق تاريخيّا في الواقع عن بروز جماعات الضغط الصهيونيّة، بل إنه هو ما أسس لها على أرض الواقع.
يبقى إذن المعطى الرئيس في تفكيك علاقة الأمريكيين، بكل مشاربهم السياسية، والبريطانيين، وأنظمة أوربية أخرى، هو العقيدة المسيحية الصهيونية، الناشئة عن معتقدات البروتستانتية بكل موروثها الديني، وهذه الأخيرة لا ترتبط فقط بالمبدأ العام القائم على شروط عودة المسيح مرة ثانية في مجتمع يهودي بالقدس (صهيون)، والتي تقتضي تجميع اليهود في فلسطين، بل هي أيضا طريق الغرب الإجباري للتخلّص من هذا الجنس الخبيث.
إن إدراك هذه المفاتيح المهمة في تبيان العلاقة الشائكة والمتشعبة بين الدولة الأمريكية على مرّ تاريخها المعاصر والكيان الصهيوني مسألة جوهرية في بناء الوعي الجماهيري العام ومحددات القرار السياسي العربي ومنطلقات التفكير النخبوي لقوى الأمّة، لأن مراهنة البعض، في ظل الكلفة العالية للمقاومة، على خيارات وهميّة عدميّة، ترتكز على تسوّل العدو الحليف للاحتلال، لا تعدو أن تكون تبريرًا للوضع القائم وتغطيةً عليه، بالاحتجاج لاحقًا على عدم وفاء الأمريكيين والبريطانيين ومنْ ناصرهم، بالتزاماتهم في تحقيق السلام واستعادة الحقوق الفلسطينية والعربية الإسلامية، في محاولة مكشوفة لتبرئة الذمة أمام الشعوب والتاريخ، والتنصل من استحقاق الحرية واسترجاع الأرض والمقدسات.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.