هجرةٌ عكسية لنصف مليون يهودي!
الرأي
هجرةٌ عكسية لنصف مليون يهودي!
حسين لقرع
2024/06/29
لم تقتصر خسائر الاحتلال على سقوط جنود قتلى وجرحى وتدمير دبابات وآليات عسكرية في غزة كلّ يوم، وعلى خسائر اقتصادية متفاقمة، وعزلة دولية متزايدة، بل إنّه مُني أيضا بخسارة اجتماعية وديمغرافية ثقيلة تهدّد مستقبله برمّته؛ إذ كشف موقع “زمان إسرائيل” الإخباري أنّ نحو نصف مليون صهيونيّ قد ترك فلسطين المحتلّة منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى حدّ الساعة، ولم يعُد منهم أحد، ليؤكّد بذلك ما كشف عنه موقع “أورينت” الفرنسي يوم 24 أفريل الماضي، بأنّ طلبات الصهاينة للحصول على جوازات سفر غربية قد تضاعف خمس مرات منذ بداية حرب غزة!
الرقم مهول وغير متوقّع على الإطلاق في “بلدٍ” لا يزيد عددُ سكانه عن 8 ملايين نسمة، وهذا تطوّرٌ بالغ الخطورة والأهمية وانتصارٌ آخر للفلسطينيين يفوق انتصارهم الميداني في غزة بالنظر إلى الصراع الديمغرافي الدائر بينهم وبين الغزاة اليهود منذ عقود.
خلال الأسابيع الأولى للحرب، كانت هناك مخاوف كبيرة من تمكّن العدوّ من تنفيذ مخططه الخطير غير المعلن، بتهجير سكان غزة إلى سيناء المصرية، عبر المجازر والتدمير والتجويع الممنهج، وهي خطوة أولى لتصفية القضية الفلسطينية، لكنّ هؤلاء السكان صمدوا وثبتوا في أرضهم واكتفوا بالنزوح الداخلي في شتى أنحاء القطاع فرارا من هول المعارك والمجازر، وأفشلوا مخطط التهجير بعد مرور قرابة تسعة أشهر من الحرب. وبالمقابل، كانت المفاجأة مدوّية من الجانب الصهيوني؛ إذ لم يكتفِ المستوطنون بالنزوح الداخلي من مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين هروبا من صواريخ المقاومتين الفلسطينية واللبنانية فحسب، بل كانت هناك هجرة عكسية باتجاه كندا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى مناصِرة للاحتلال!
ومعنى هذا أنّ الكيان الذي كان يراهن على تهجير الفلسطينيين ومحاولة إقناع المزيد من يهود العالم بالهجرة إلى “أرض الميعاد” لإكثار سوادِه وحسم القضية لصالحه، قد بدأ يخسر الرّهان من خلال صمود الفلسطينيين في أرضهم وتفاقم الهجرة المعاكسة للمستوطنين؛ نصف مليون يهودي ترك فلسطين المحتلّة في ظرف تسعة أشهر فقط، فماذا لو طالت الحرب وتزايدت خسائر جيش الاحتلال في غزة ثمّ اتّسعت لتشمل لبنان وتعرّض الكيانُ لأعداد كبيرة من مسيّرات “حزب الله” وصواريخه الدقيقة؟ لا ريب أنّ أعداد “المهاجرين” إلى الخارج بلا رجعة ستتضاعف، ذلك أنّ المستوطنين كانوا يؤمنون بأسطورة أنّ جيشهم “لا يُقهر”، وكانوا يعيشون في فلسطين المحتلة اعتقادا منهم أنّ هذا الجيش سيوفّر لهم الحماية المطلقة والأمن الكامل ولا خطر على حياتهم، كما ستوفّر لهم الحكومة رغد العيش، لكنّ هذه الصورة المثالية زُلزلت بشدّة عقب غزوة 7 أكتوبر، وهي تتداعى الآن بمرور الأيام وعجزِ الجيش عن ترميم صورته في حرب غزة التي يخسر فيها يوميًّا المزيد من جنوده، فضلا عن عجزه عن فرض الأمن في الشمال وإعادة نحو 250 ألف مستوطن غادروا مستوطناتهم منذ 8 أكتوبر إلى مدن الداخل هروبا من الصواريخ التي يطلقها “حزب الله” يوميًّا.
وإذا انتهت الحرب الحالية بخسارة مدوِّية لجيش الاحتلال فستنهار ثقة المستوطنين فيه، وتزداد قناعتُهم بضرورة الهجرة إلى أيِّ بلد يمنحهم جنسيته لتفادي تكرار ما حدث في 7 أكتوبر مستقبلا.. إذا كانت فرقة غزة العسكرية قد تهاوت في ظرف ساعات يومذاك، فما الذي يضمن أن لا ينهار جيشُ الكيان بالطريقة المُذلّة ذاتها إذا ما قام مئات الآلاف من المقاومين مستقبلا باجتياح فلسطين المحتلة من عدّة جبهات؟
هذه الحقيقة المروِّعة جعلت رئيس الحكومة الصهيونية السابقة نفتالي بينيت يعترف بأنّها “أحزنته بشدّة”، ويقرّ بأنّ “إسرائيل تواجه أخطر مرحلةٍ منذ 1948″، ويتوجّه إلى “مواطنيه” بمنشور على منصّة “إكس” يتوسّل فيه إليهم أن يكفّوا عن الهجرة إلى الخارج.
إنّنا أمام مرحلة تاريخية جديدة؛ فبعد أن كان الاحتلال يربح الحروب الخاطفة مع الجيوش العربية ويهجّر الفلسطينيين والعرب في كل مرة من بيوتهم وقراهم، بدأ العكس يحدث الآن وأخذ الصهاينة يهجرون تباعًا مدنهم ومستوطناتهم إلى دول الغرب فيما يشبه “نكبةً” معاكسة تجري في صمت!
وعندما يهرب المئات من جنود الاحتياط إلى الخارج حتى لا يُستدعوا للقتال مجددا في غزة، فإنّ الأمر يصبح أخطر من هجرة مستوطنين مدنيين، لذلك يبدو انهيار الاحتلال أقرب مما نتصوّر رغم كل ما نراه من مجازر وحشية ودمار واسع.. يكفي فقط أن نعرف أنّ المجلس الوزاري والأمني المصغّر “الكابينت” قد ناقش مرّتين خلال الحرب الحالية مسألة “زوال إسرائيل”، حسب السفير الصهيوني السابق بواشنطن، مايكل أورن! والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.