الحرية ضحيّة العصر
الرأي
الحرية ضحيّة العصر
عبد الوهاب دربال
2024/06/25
القاعدة الأصلية لممارسي العمل السياسي التغييري والإصلاح الاجتماعي الجذري هي متابعة حركة المجتمع السياسي برُمّته إذ يشمل نشاط صُنّاع القرار في الحكم ونشاط معارضيه ومنتقديه وخصومه ومنافسيه.
وضِمن مبدأ الحريات العامّة الفردية والجماعية يتمتع الجميع بمبدأ حرية التعبير والتنظيم والحركة. وهدف الجميع سلطةً ومعارضةً هو خدمة المجتمع وتحقيق مصالحه وتطلعاته في حياة أفضل تحكمها عدالة مستقلة وسلطة تضمن الحريات وتمارس مهامها من دون تعسف أو تجاوز كما تمارس المعارضة نشاطها بعيدا عن كل وسائل العنف وضمن إطار القانون.
وضِمن هذا التعريف الموجز والمقتضب تصبح قاعدة المشاركة في الحُكم كقاعدة المعارضة لها؛ إذ يُشكِّلان دعامتين متينتين لتحقيق الصالح العامّ وضمان حمايته وتطويره.
إنّ الفيصل بين صواب الخيارين يكمن بصفة جذرية وأساسية في خيار الكتلة النّاخبة والتي لها وحدها تقرير من يصنع القرار ويتولى السلطة، وعليه تكون حرية النّاخب وضمانها هي حجر الأساس في الاستقرار والشرعية.
الكل يتفق نظريا على قبول هذا المفهوم وينادي به، لكنّ الواقع التطبيقي والعملي مليء بالخروق والتّعسف والتّجاوز وعدم الوفاء لهذا المفهوم. ذلك هو السبب الرئيس في اهتزاز الثّقة وكثرة العزوف ومن ثمَّ هوان الشرعية وفتح باب التشكيك ثُم المزايدة على مصراعيه.
إنّ ظاهرة مخالفة الواقع التطبيقي للمفهوم النّظري في العمل السياسي والإصلاح الاجتماعي ظاهرة عامة يلاحظها المُتابِعون والدّارسون في كل المجتمعات البشرية، لكن حجمها ونسبتها تختلف من مجتمع إلى آخر.
أسباب هذا التّضارب بين المفهوم النّظري والواقع التّطبيقي كثيرة ومتعدّدة، بعضها يبدو للوهلة الأولى مبرراً، غير أنّ أغلبها يحتكم إلى عوامل مصلحية أو استكبارية أو استعمارية بل وأحيانا تمييزية وعنصرية.
ترى بلدان العالم المُتمدين -كما تُسمّي نفسها- أنّها وحدها البلدان الحرّة والديمقراطية، بل وتُنصِّب نفسها حامية للحريات في العالم، وتضع شرطها الأول في التّعاون مع بقية الدّول في العالم الآخر ضرورةَ الأخذ بمبادئها في إسناد السلطة وتنظيم المجتمع، ولكم في اتفاقيات الشّراكة التي يعقدها الإتحاد الأوروبي مع دول حوض المتوسط وغيرها أبرز مثال. غير أنّ هذا الاشتراط يُخفي وراءه قصدا استغلاليًّا للسّيطرة على القرارات وابتزاز الثروات.
في حين ترى بلدان العالم السائر في طريق النمو -كما يحلو لها أن تُسمّي نفسها- أنّ واقعها المعيش ووضعها السّيادي وضرورة المحافظة على السّيادة والاستقلال أسبابٌ كافية للتعامل مع مفهوم الحريات بحذر شديد وتشكيك دائم.
وبين حجج هؤلاء وهؤلاء تكون الحريات وتحقيق مصالح الشعوب هي الضحية الأولى والدّائمة.
خلق الله، سبحانه وتعالى، الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، والتعارف الذي يعني التعاون لا يمكن أن يتحقق إلّا بالتّوافق، والتّوافق لا يكون إلّا بالحوار الهادئ والعلمي والمسؤول، والحوار بهذه المواصفات لا يمكن أن ينجح إلّا بالاعتراف بالآخر المختلفِ في العِرق واللون والمُعتقد والثقافة.
وما لم يتحقق هذا الاعتراف بقاعدة المساواة فإنّه لا مجال للحديث عن السلام والعيش في كنف الإنسانية الجامعة لأنّ المناداة بتصادم الحضارات والعمل على تأجيج هذا التصادم لا يمكن إلّا أن تكون من مصدر مُعادٍ للإنسان كرامة ووجودا. ويبدو أنّ الحركة الصهيونية المُؤجِّجة والمستفيدة الوحيدة من هذا التضارب الذي طال أمده وتظهر آثاره التّدميرية على البشرية كل وقت وحين.
وما زال التاريخ البشري يشهد هذا التّصادمَ إلى يوم الناس هذا سواء على المستوى الداخلي لشعوب العالم المُتخلِّف أو على المستوى الدولي بين تلك التي تُمارِس وصاية على غيرها مُستعمِلة كل وسائل الضّغط بالقوة النّاعمة حينا والغاشمة متى اقتضى الأمر ذلك.
والضّحية المكذوب باسمها هي الحرية والعدالة والمساواة والكرامة البشرية.