مما يضرّ بطلبة العلم التصدّرُ قبل البناء، وادّعاءُ النضج قبل التحصرم، و«التدكتر» المبكّر، والاستنكافُ عن ثني الركب في مجالس العلم أمام الأساتذة والشيوخ، وأخشى ما يُخشى أن يُصاب بعض إخواننا وأبنائنا الطلبة بهذا فيقتلهم الغرور من حيث يشعرون أو لا يشعرون، بعد شيوع داء الكسل والسلبية والعجز نتيجةُ «ذُهّان السهولة» المتفشي في واقعنا الاجتماعي والجامعي ( psychose de facilité بتعبير مالك بن نبي) ثم يصابوا بعدوى الحرص على «المظهر وحب الظهور» ورواج عقلية استسهال كل شيء، وشيوع ثقافة المديح المتبادل بين الشُّداة والأحداث! وقد مدح رجلٌ رجلا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «لقد قطعت عنق صاحبك» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا المَلحظ رائج عندنا كثيرا إلى حدّ الابتذال أو الابتزاز والاستفزاز، فتدرّجْنا في مراتب المظاهر الخداعة وسرنا في الرداءة أشواطا، وتحوَّل مجتمعنا المفتون في موازينه وأخلاقه وانتكس انتكاسة ظاهرة، فتدحرجنا في هذا المسار المنكوس من «طلب العلم»… إلى «طلب الشهادة»… إلى «طلب اللقب» (لقب دكتور على الخصوص) -الذي أصبح هو الغاية وصار الحصول عليه سهلا في الأعم الأغلب- وكأن الجيل الحالي متفق على اتخاذ الألقاب الجامعية وغيرها «للزينة والتفاخر والاستكثار من المديح الزائف المبالغ فيه» في جامعاتنا وفي مجتمعنا، بخلاف الجامعات العريقة في الغرب؛ فالأمر عندهم مختلف، وكبار المنظِّرين واللغويّين وأصحاب النظريات الكبرى عندهم قلما يُنادَون بهذه الألقاب، أما عندنا فصار الجميع دكاترة وبروفيسوات وعلماء…، ورغم كثرتها لم تصنع لنا جامعات محترمة، وترى الجميع يحرص على الألقاب والرتب والنياشين…! حتى بلغ الأمر ببعض طلبة العلم ومن والاهم الحرص على أن يُدْعَوا بهذا اللقب منذ لحظة الإعلان عن نجاحهم في مسابقة الدكتوراه، فيدعو بعضهم بعضا بـ»الدكتور فلان والدكتورة فلانة» قبل «التدكتر» الفعلي بسنوات!؟ بل يُحبّ بعضهم أن يُدْعَى بها قبل الأوان! ولا أزال أذكر أن أحدهم قال لي يوما وقد أدرك مبتغاه من اللقب، وانتشى وازدهى بمناداته بهذا اللقب الذي يراه زينة وتشريفا لا مسؤولية وتكليفا…قال لي منتشيا معجَبا مزهوا «ça sonne bien»…! وقد نقلتها بلفظها.
وغنيّ عن تطويل البيان والأخذ والردّ والجدل العقيم أن المسألة هنا ليست مسألة «ألقاب مملكة» في «موضعها» أو في «غير موضعها»… ولكنها مسألة ما تحمله «الشهادة الحقيقية» من مسؤوليات وواجبات وكيف أُفرِغت من محتواها، فميّعناها بسلوكاتنا الخاطئة وعاداتنا السيئة، وبتكاسلنا عن الطلب وجودة التدريس (وما أدراكم ما التدريس!)، وإن مِثْل هذا الشعور وهذا السلوك -إذا استفحلا- يُوهمان صاحبهما بأنه صار شيئا «يُحسب له حساب» فتزبّب قبل أن يُحصرم… فيتوهم أنه بلغ النهاية وأدرك الغاية ولا مجال للاستزادة فيحمله على التشبع والاستنكاف عن الطلب، وبما استكبر على من يراهم دونه من عباد الله… بما نال من «لقب» لا بما حصّل من «علم» وبما أتقن وأفاد.
وإنما يحصل بناء العلم ببناء روحه وسمته وحاله، أي البناء النفسي الخلقي السلوكي قبل البناء العلمي المحض أو معه، وإنضاج البُعد التهذيبي قبل البعد المعرفي أو معه، وباحترام سُنة التدرّج التي جعلها الله من قوانين الطبيعة المسخّرة، فعوض أن نملأ أوقات دنيانا علما نافعا وعملا صالحا وعقلا ذكيا ملأناها ألقابا ورتبا ونياشين (في مجالات عدة لا في الجامعة وحدها) واستقرّ في خلد كثيرين أن هذا هو المطلوب وهو الغاية القصوى!
ومما يجدر أن نوصي به من يتقبّل الوصية-وهم موجودون بين ظهرانينا بفضل الله- أن يربأ طلبة العلم بأنفسهم أن يكون مَثَلُهم مَثَل الشخص الذي ذكره حازم القرطاجني في منهاجه؛ وخلاصته أن أحدهم قرأ كتاب الطب يوم السبت وليلته فادّعى صباح الأحد أنه صار طبيبا، فلما قصده المريضُ للعلاج وصف له دواء كان سببا في التعجيل بوفاته.
ومعركة البناء الحضاري تقتضي أن نتعاون على إشاعة الأخلاق والوعي والعلم النافع ونوطّن أنفسنا والنشء على هذه القيم، لا أن نتخذ هذه الشهادات والألقاب (والرتب والنياشين…!) أداة تفاخر بالمظاهر والألقاب، والقاعدة معلومة [إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْۖ ].
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.