غربانُ المواقع والوطنية الكاذبة
الرأي
غربانُ المواقع والوطنية الكاذبة
محمد بوالروايح
2024/06/21
إن المعارضة السياسية جزء من العملية الديمقراطية، فلا ديمقراطية من دون معارضة، ولكن للمعارضة السياسية أدبيات وأخلاقيات فإذا انتفت تحولت هذه المعارضة إلى شكل من أشكال الثرثرة الكلامية التي لا يراد منها الإصلاح بل اللعب على عواطف الناس باستخدام خطاب شعبوي ليس فيه شيء من العقلانية والواقعية.
يدّعي بعض من يسمون أنفسهم “معارضة” أن ما يقومون به “واجب وطني”، وهذه كذبة كبرى لا تنطلي إلا على من عطّل عقله وسفّه نفسه، فمتى كانت الوطنية سبابا على الهواء، وانتقاصا للشخصيات والمؤسسات، وكيلا للاتهامات؟
يطلق بعض غربان المواقع خطابات شعبوية ليس فيها شيّة من فقه الواقع، الغرض منها تهييج الجماهير وإثارة الرأي العامّ لكسب بعض الدنانير، وحجز اسم في الفضاء الإعلامي العالمي الذي تسيّره كيانات معادية للوطنية وموالية للصهيونية العالمية. وأغرب ما في سلوك هذه الغربان أنها تنعق بما لا تسمع، وتحشو عقول من يستمع إليها ويشاهدها بحكايات مختلَقة ينفخ فيها ناقلوها ما وسعهم، مصدرها مجهول وملغوم وينقض بعضها بعضا.
وتعج منصات التواصل الاجتماعي بعدد معتبر من الباحثين عن الأضواء وأهل الأهواء، الذين يستهويهم نشر الفتنة وضرب الوحدة الوطنية من خلال اللعب على وتر الحزبية الضيقة التي تجلب إليها بعض عديمي الضمير ممن يبيعون وطنهم وذممهم بعرض من الدنيا قليل.
يزعم أحدهم أنه دبلوماسيٌّ متمرس، فإذا تكلم في الدبلوماسية بدت عوراته وكثرت سقطاته، فينفرط حبل أفكاره ويخرج عن الموضوع، ويطفق يخوض في موضوعات لا صلة لها بالدبلوماسية، فقط لكي يوصل رسائله المسمومة التي تفيض غيضا وبغضا، والتي يلّفها بقميص الوطنية الكاذبة، لا يرى للدبلوماسية الجزائرية حسنة تذكر ولا إنجازا يشكر، فكلها في اعتقاده إخفاق مستمر وفشل متكرر. وفي المقابل لا نسمع له رِكزا في نقد الدبلوماسيات الأخرى بل يتخذ من بعضها صورة نموذجية، يغالي في مدحها ويتودد إلى أصحابها و يجتهد في ترحيلها من المواقع إلى الواقع حتى يتقبّلها ويتلقّفها بعضهم على أنها الحقيقة وما هي من الحقيقة في شيىء.
إن أغرب ما في مواقع التواصل الاجتماعي أن تجد أمِّيًّا في مجال العلم والإعلام، يفتي في العلم وهو لا يعلم شيئا من مبادئه، ويفتي في السياسة وهو لا يفقه قليلا ولا كثيرا من قواعدها، ويتحدث في الإعلام وهو لا يحسن شيئا من أسس الخطاب الإعلامي. لقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة كبيرة، يرتادها الباحثون عن الشهرة بأي ثمن ولو كان الثمن وطنا ممزقا، لأن الوطن لا يعني عندهم شيئا غير الانتماء الوراثي والجغرافي. إن الوطن أكبر من أن يختزل في هذه الدائرة الضيقة، فهو أرض الأحلام ومصدر الإلهام ومجمع الوجدان.
هناك معلومة ينبغي أن تصل إلى غربان المواقع من الصم البكم الذين لا يعقلون، وهي أن نشر الغسيل –إن صحّ هذا التعبير- في هذه المواقع يخدم فئتين اثنتين: الفئة الأولى وهي الصهيونية العالمية التي تجنِّد أبواقها من أشباه السياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين لتقسيم الأوطان، وتمزيق الأوصال، وتكريس ثقافة الكراهية وتهيئة بعض الرعاع لمهمات قذرة يأباها كل وطني غيور على وطنه وكل ضمير حر، والفئة الثانية هم المتزلفون الذين يريدون تحقيق مصالحهم ولا يفكرون في المصلحة الوطنية، شعارهم في ذلك “أنا وبعدي الطوفان”.
لقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحةٍ يجتمع فيها بعض الأشرار للتشويش على الأخيار واتهامهم بالخيانة والعمالة، يحدّثون الناس عن عدل عمر ولو وصلوا إلى السلطة لعملوا خلافه، ولأمعنوا في ظلم مخالفيهم ولصادروا حرياتهم ولقطعوا عنهم كل سبيل يوصل إلى الحرية ويؤسس للديمقراطية.
أغرب ما في مواقع التواصل الاجتماعي أن تجد أمِّيًّا في مجال العلم والإعلام، يفتي في العلم وهو لا يعلم شيئا من مبادئه، ويفتي في السياسة وهو لا يفقه قليلا ولا كثيرا من قواعدها، ويتحدث في الإعلام وهو لا يحسن شيئا من أسس الخطاب الإعلامي. لقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة كبيرة، يرتادها الباحثون عن الشهرة بأي ثمن ولو كان الثمن وطنا ممزقا، لأن الوطن لا يعني عندهم شيئا.
لست متحزبا، ولكنني أضم صوتي إلى أصوات حماة الوطن ودعاة الوحدة الوطنية، أبذل في سبيلهما كل غال ونفيس، وأناضل من أجلهما حتى آخر رمق من حياتي، لا أنتظر من ذلك مكافأة من أحد، إنما هو شعور يمليه عليَّ ضميري وتنزع إليه نفسي كما قال الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وقومي وإن ضنّوا عليّ كرام. لست ممن يتنكر لوطنه وبني جلدته، أو يتصيد الفرص، أو يستعطف الآخرين للظفر بمكسب أو منصب، فأغلى المكاسب في اعتقادي شعب واحد ووطن مستقر، أسعى في البناء، وأتصدى لدعاة الهدم من أي فصيل كانوا؛ فالحفاظ على مكتسبات الوطن وصية الشهداء، التي يجب أن يتواصى بها الجزائريون كابرا عن كابر.
أقول لغربان المواقع: لقد سقط القناع واكتشف الجزائريون أنكم مجرد دمى في مسرحية هزلية ظاهرها الوطنية وباطنها خدمة الصهيونية العالمية التي لا يهمُّها من المنتصر في صراع الأشقاء لأنها تؤمن أنه لا منتصر في النهاية وأنها هي من يكسب الرهان، بهذا أوصى قادتها وتواصت أجيالها، فليت غربان المواقع يدركون هذه الحقيقة فيثوبون إلى رشدهم ويكفّرون عن خطيئتهم ويعودون إلى حضن وطنهم.
يردُّ ناعقٌ على ناعقٍ في المواقع، ويحتدم الشجار وتغيب الأفكار ويختصمان في أمر من نسج الخيال، ثم يعودان كما كانا يدا على من يخالفهما ولا يؤمن بمنهجهما في التغيير وأسلوبهما في التفكير، ديدنهما بيع الأوهام واستخدام الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للضحك على أذقان العوام وحتى بعض النخب ممن يجدون متعة في إتِّباع كل ناعق ولو كان عديم المعرفة وخالي الوفاض من كل ما يمتّ إليها بصلة.
يتحدث غربان المواقع في كل شيء، ويفتون في كل مسألة، ويبتون في كل نازلة، يمارسون دور المفتي الشرعي، ويتقمّصون دور المحلل السياسي والرياضي والخبير الاقتصادي والمالي، ويأتون بأرقام ما أنزل الله بها من سلطان لكي يحققوا مرادهم وهو تنكير الاقتصاد الوطني ووصفه بالفشل والعجز عن إيجاد الحلول والبدائل، ولو سألتهم عن هذه الحلول والبدائل لوجدتهم أعجز الناس عنها وأفشلهم في توصيفها وتوظيفها في “دولة المدينة الفاضلة” التي يمنُّون بها أنفسهم ويخدعون بها أتباعهم “كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا” (النور 39). يتصيد أحدهم الهفوات فيخصص لها حصة كاملة، يلوك فيها الكلام ويلف ويدور ولا يخرج في النهاية بنتيجة “كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ ماه وما هو ببالغه”. (الرعد 14).
تحضرني هنا كذبةٌ كبرى، وقع فيها أحد غربان المواقع، جلبت عليه اللعنات والتعليقات الساخرة، حينما ادّعى في بث مباشر أن الجزائر فتحت مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية للعبور إلى مالي، ثم جاءه الرد القاصم من الجيش الذي لا يساوم على سيادة الجزائر ووحدتها الترابية. إن كثيرا من اللافتات التي ينشرها غربان المواقع والتي تتحدث عن الحرية والديمقراطية وعن الحكم الراشد تدينهم قبل غيرهم، فهم أول من يخرقها، يتحدثون عن حرية التعبير ويمارسون أبشع أنواع الاستبداد الفكري، فلا رأي يعلو على رأيهم، ويتشدقون بنظام الحكم الراشد وهم أقرب إلى الفوضى.
نصيحتي للنخب الجزائرية في الخارج أن تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لخدمة المصلحة العليا للوطن ولجمع كلمة الجزائريين ولتعزيز اللحمة الوطنية، وأن يعلموا أن فساد شخص لا يعني فساد الدولة، وأن الأمر بالمعروف مقدَّمٌ على النهي عن المنكر، وأن الإصلاح مهمة لا يضطلع بها إلا أهلها، وأما النقد فيحسنه كل أحد.