فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3327.95
إعلانات


أجر الحج بالنية / البصائر

أجر الحج بالنية

المطور أرسل بريدا إلكترونيا2024-06-10

البدر فارس /

كلما أهل هلال ذي الحجة، وأشرقت الأرض بمواقيت الحج، تاقت القلوب لزيارة بيت علَّام الغيوب، وتعلقت الأفئدة بمناسك الحج، فطاف القلب حول البيت، وإن طالت المسافات، فالحج هو الركن الخامس في الإسلام، وميزان العمر… ولهذا يتوق المسلمون إلى حج بيت الله الحرام، وتهفو أنفسهم إلى تحقيق هذه الغاية؛ إلا أن تحصيل هذا المطلب يحتاج إلى الاستطاعة، وليس كل راغب في الحج مستطيعا، وهنا تتجلى رحمة الله تعالى حيث قال: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» (سورة آل عمران، الآية 97).

فهل يعني هذا أن من لم يستطع الحج، سيغبن في الأجر، ويحرم من الخير؟ كلا وربي، لقد فتح الله سبحانه أبواب التعويض، ويسر فرص الاستدراك، وهو ما سنلقي عليه الضوء في مقالنا هذا.
لقد ربط الله جل وعلا وجوب أداء فريضة الحج بالاستطاعة، معنى ذلك أن غير المستطيع لا يجب عليه الحج، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ ومن ثم، فإن من تخلف عن هذه الشعيرة كرها ورغما عنه، فلا إثم عليه.
ولا شك أن القلب الحي يعتريه الألم ويحرقه الشوق، إذا حن إلى مناسك الحج وحال بينه وبينها العذر؛ وهنا يأتي الأنس، وتحضر السلوة، حيث يعزيه في ذلك النيّة الصادقة، ويبشره الهم بالفعل، والعزم على الإقدام، فعن النبي (ص)، فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (صحيح البخاري). فمن همَّ بفعل حسنة الحج ولم يتمكن من ذلك، كُتبت له حسنة بنص هذا الحديث.
فقد يحصل على الأجر العميم من حرم الحج رغمًا عنه، وبالمُقابل قد يحصل من وفق إلى الحج على الإثم العظيم؛ لأنَّ المحروم حبسه العذر، لكن استقر في قلبه العزم، فكان بنيته مأجورًا؛ بينما حج الآخر رياء، ولم يُؤدِ المناسك على حقها، ورفثَ وفسقَ وصخبَ وآذى الناس، فكان بعمله مأزورًا.
ولذلك قيل: «إنَّ النيّة أبلغ من العمل، ونية المؤمن خير من عمله؛ والنية دون العمل قد تكون طاعة، لأنَّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، لكن العمل دون النية لا يكون طاعة».
وعليه فإن المرء قد يدرك بنيته أجر الحج، فكأنَّ جسده في مكانه بينما تتنقل روحه بين المناسك، وصدق الشيخ «ابن رجب» عندما قال في كتابه «لطائف المعارف»، ص: 238: «على أنَّ المُتخلف لِعذر شريك للسائر، وربما سبق بعض من سار بقلبه وهمته وعزمه، بعض السائرين ببدنه». وللهِ در الشاعر حين قال:
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد  سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحًا
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا  ومن أقام على عذر كمن راحا
وصدق كذلك الشيخ «عمر الأشقر» عندما قال في كتابه «مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين» ص؛ 84: «إنَّ الأعمالَ التي نروم تحقيقها لا تتوقف على مُجرد إرادتنا لها، فهناك حوائل تمنعنا من تحقيق ما نعزم على فعله، إذ إنَّ الأجسادَ قد تضعف عن تحقيق المراد بسبب مرض مسهد، أو هرم مُقعد، أو فقر مُجهد، أو عدو قاطع للطريق، أو ظالم يحبسه في داره؛ لكن هذه الموانع والحوائل لا تمنع النية من التحقق والوجود، بِما أنها طليقة من القيود التي تكبل الأجساد؛ فهي عمل القلب، والقلب لا سُلطان عليه، ولذا فإنَّ العبدَ الذي ينوي نية صادقة ولا يستطيع تنفيذها في الواقع، ينال ثواب الناوي الفاعل لِما نوى».
إنَّ للنية شأنا عظيما، إذ إنها تنوب عن قطع المسافات وبذل الأموال وشهود المشاهد، لمن لم يستطع إلى ذلك سبيلا، ومن ذلك الحج؛ فكما ذكرنا آنفا، فإن العبد الذي نوى الحج وبذل ما في وسعه لكنه عجز عن تحقيق الهدف، فإنه يرجى له الأجر، وكأنَّه حضرَ مع الحجاج وقام المناسك.

السلطان «صلاح الدين الأيوبي» ونيته في الحج
من الأمثلة التي نسوقها فيما يخص نيّة الحج عند المؤمنين المُتشوقين لأداء فريضة الحج؛ ما حصلَ للسلطان «صلاح الدين الأيوبي» قاهر الصليبيين ومُحرر بيت المقدس سنة 1187م، فقد كان هذا السلطان عابدا صالحا، يعرف اللهَ حق معرفته، ويتَّقي اللهَ حق تُقاته، ويخشى اللهَ حق خشيته، ويعبد اللهَ حق عبادته؛ وكان قلبه الشكور ولسانه الذكور يضرعان دائما إلى الله بآياتِ الحمد والثناء على نِعمه؛ وكان لا يتهاون في أداء فرائض وشعائر دينه الإسلامي الحنيف، غير أنَّه لم يسعفه القدر في أداء فريضة الحج، فـ»صلاح الدين الأيوبي» لم يحج إلى بيت الله تكاسلا أو تقاعسا، أو تهربا من أداء هذه الفريضة، أبدا، أبدا، أبدا… بل بالعكس من ذلك، فهو مثل عال في التمسك بتعاليم دينه والإمتثال لأوامر ربه، لا يُصلي إلا جماعة ولا يترك الصوم ولو عند اشتداد المعارك، يسمع آيات الله تُتلى فتخشع نفسه وتذرف دُموعه. أما عدم حجه إلى بيت الله، فذلك راجع لإنشغاله الكبير في جهاده في سبيل الله، وهل يستوي المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم مع القاعدين -ولو حجوا سبعين حجة-؟! بالطبع لا… يقول الله: ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (سورة النساء، الآية: 96-95).
ولقد أراد وعزم «صلاح الدين» على أداء فريضة الحج بعد إبرام عقد صُلح «الرملة» سنة 1192م مع الصليبيين، غير أنَّ مُستشاريه وعلى رأسهم القاضي «الفاضل» نصحوه بتأجيل هذا الأمر إلى السنوات المُقبلة، شارحين له أعذارهم بأنَّ الصليبيين لم يخرجوا بعد من الشام، والقدس ما زالت في خطر، ولا وُثوقَ بعهد الصليبيين، فلا يُؤمن مع بقاء الصليبيين على حالهم. وقد استجاب السلطان «صلاح الدين الأيوبي» لهذه النصيحة، وعزم على ترك الحج عامه ذلك.
ولقد ذكرَ المؤرخون أنَّه في الأيام الأخيرة من حياته، خرجَ بنفسه لاستقبال الحُجاج العائدين من «مكة»، فأُصيبَ بمرضٍ مُفاجئ -الحُمَّى الصفراوية- وذلك بسبب شغفه وتحسره الكبير لعدم أدائه فريضة الحج؛ ولو كان «صلاح الدين» بريئًا من شجونه الخاصة لمَا أُصيبَ بهذا المرض المُفاجئ والقاتل عقب خروجه لاستقبال هؤلاء الحُجاح العائدين من «مكة»، إذ خرجَ بنفسه لاستقبال القادمين، مُعبِّرًا عن أسفه الشديد لعدم زيارته البيت الحرام، وما درى أنه قام بجهادٍ يفوق كل جهاد، بحيث لم يأتِ عليه موسمٌ من مواسم الحج دون أن يشترك في موقعة، أو يكسب انتصارًا…!!
أَنسِيَ هذا البطل -الذي تساقطت دموعه، حين رأى الحُجّاج آسفًا ألا يكون من العائدين معهم- أنَّ الأعمال بالنيات، وأنَّ لكلِّ امرئ ما نوى، وأنَّ الجهاد الأكبر الذي عاناه صابرًا مُحتسبًا فوق كل جهاد؟! ولكن شعلة الإيمان في صدره جعلته يتساءل عن شعائر الإسلام قائلًا: إنه أدى الصلاة والزكاة والصوم، وقد بقي الحج دون أداء! وقد استمع بعقله إلى تهوين الأمر من فضلاء كالقاضي «الفاضل»، والقاضي «ابن شداد»، ولكن منطق العقل وحده لا يقنع الوجدان!!…
وكان الصليبيون قبل استقرار الحُكم لـ»صلاح الدين»، يتعمدون أحيانًا مُهاجمة قوافل الحُجَّاج والتجارة المصرية، المارة عبر صحراء «سيناء»، وفي طريق الحُجاج الشهير ونهبها، مما أدى إلى تعطيل الطريق البري للحجاج الوافدين من الأندلس والمغرب ومصر، واضطرارهم إلى سلوك طريق طويل يبدأ من «الإسكندرية» إلى «الفسفاط»، إلى مدينة «قوص» بصعيد مصر ثم منها يخترق الحجاج صحراء «عيذاب»، حتى يصلوا إلى ميناء «عيذاب» على البحر الأحمر، ومنها يركبون السُّفن الصغيرة المعروفة بـ»الجلاب» حتى ميناء «جدة». وكانت هذه الرحلة طويلة شاقة عانى منها الحُجّاج الأمرّين، وكان قطع الصليبيين لطريق الحج البري عبر «سيناء»، قد تم لهم بعد استيلائهم على حصن «كرك»؛ فلما استقر الحُكم لـ»صلاح الدين الأيوبي»، جعل «الكرك» هدفًا لأول غزوة من مغازيه للصليبيين ليصل طريق القوافل والتجارة عبر «سيناء»، بين مصر والشام، ويُؤمن طريق الحج المصري البري بعد انقطاعه.
ولقد أفلح «صلاح الدين» في مهمته هذه، حيث استطاع تأمين طريق الحُجّاج إلى بيت الله الحرام، بعد فتحه لبيت المقدس و»كرك»، فكان لقب «خادم الحرمين الشريفين» و»مُنقذ بيت المقدس من أيدي الصليبيين» أحق لقبين يُلقبان به.
ولقد كان تأمين طريق الحج إلى «مكة»، من أهم دوافع «صلاح الدين الأيوبي» لفتح بيت المقدس واسترداده من الصليبيين.
ثم واصل «صلاح الدين الأيوبي» إعانته للحجاج وتسهيل السبل لوصول الحجاج إلى الأماكن المُقدسة في أحسن الظروف حتى يوم وفاته، ولم يدخر وسعًا في استمراره في تأمين طريق الحج، بحيث جعل هذا الأمر هاجسه الكبير. وداوم على مُكاتبة أمير «مكة» يُوصيه برعاية الحُجّاج عند وصولهم إلى الحرم المكي، كما كاتبَ أمير «برقة» من قبله، يُوصيه بحماية الحُجّاج المغاربة والأندلسيين المارين بولايته.
لقد نسي «صلاح الدين» القائد البطل العظيم مُعاناته الجسيمة التي عاناها جراء تلك المعارك التي اشترك فيها ضد الصليبيين والمُتآمرين على الدين الإسلامي معًا، صابرًا مُحتسبًا فوق كل جهاد؛ وكأنَّ شُعلة إيمانه المُضيئة التي اضاءت له الطريق لتحرير بيت المقدس، وتحرير وتطهير معظم الأراضي الإسلامية في المشرق العربي التي دنستها أرجُل وأيدي المُغتصبين الظلمة، الكفرة الفجرة… لهي اليوم تُعاتبه على عدمِ أدائه فريضة الحج…!! غير أنَّ «صلاح الدين» لا يُعاتب في هذا الأمر، فلو أراد الله عزَّ وجلَّ، العزيز الحكيم، الكريم القدير أن يجزي عبده الصالح الفارس المُجاهد «صلاح الدين الأيوبي» على جهاده المُستمر الذي لم يتوقف -إلا بمرضه ووفاته- طيلة أكثر من أربعين سنة، خاضَ خلالها سبعا وأربعين معركة، بمعدل أكثر من معركة في كل عام، لَجزاه الله العظيم جزاء ملايين الحُجاج الذين حجوا -مُحتسبين، راغبين في الله- البيت الحرام مرات ومرات، فلا جزاء فوق جزاء المُجاهدين المُخلصين.
لقد كانت شخصية «صلاح الدين الأيوبي» مُتميزة عن باقي الشخصيات، لِعُلوها في تقواها وهِمَّتها وهيبتها ووقارها وجهادها.

الخُلاصة والتوصيات
وخُلاصة القول إنَّ رحمة الله واسعة، حيث فتح لعباده مَجالات الخير، وجعلها مُنوعة ومُراعية لقُدراتهم وحاجاتهم، فمن شقت عليه عبادة وجد مندوحة أخرى، فقد يقطع الناوي بقلبه مسافات في السير إلى الله يعجز عنها السائر بالجسد، ومثل ذلك أُناس نووا الحج بقلوبهم وعقدوا العزم واشتاقوا وحنوا؛ لكن حبسهم العذر، وقصرت بهم الصحة أو النفقة، فكتبَ اللهُ لهم الأجر بما ربطوا عليه أفئدتهم، كما فتحَ لهم باب استدراك التخلف القهري عن الحج بتيسيره لعبادات في العشر من ذي الحجة، يرقون بها منازل المأجورين، وربما يتجاوزون فيها الحجاج والمُعتمرين…!!.
ومن التوصيات التي نُوصي بها المُشتاقين لأداء فريضة الحج بينما أعاقتهم ظروف قاهرة للسفر إلى الأماكن المُقدسة وأداء مناسك الحج؛ أن يغتنموا ويستثمروا العشر الأوائل من ذي الحجة… فمن لم يكتب له الحج فعليه بهذه الأيام عساه أن يُضاهي أجر الحجاج، وذلك بطرق أبواب الخير التالية:
– شراء الأضحية وذبحها: وفيه تشبه بهدي الحج.
– صوم عرفة: لعله أن يُجاري أجر الواقف بها في الحج، حيث قال رسول الله (ص): «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» (صحيح مسلم).
– الكف عن قص الشعر والأظافر: بحيث يتشبه بالمُحرم في ابتعاده عن محظورات الإحرام، فعن «أم سلمة»، أنَّ النبيَّ (ص) قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يُضحي، فليمسك عن شعره وأظافره» (صحيح مسلم).
– الإكثار من ذكر الله: بقراءة وتلاوة القرآن الكريم خلال هذه الأيام العشرة المُباركة.
– الإكثار من الإنفاق في سبيل الله عز وجل.

المراجع:
– مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، العدد رقم: 640، المقالة تحت عنوان: «حبسهم عن الحج العذرُ… ولم يفُتهم الأجر»، للكاتب علي نجم، ص: 25-23.
– كتاب: السلطان صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومُحرر بيت المقدس، للأستاذ البدر فارس.
– كتاب: لطائف المعارف، للشيخ ابن رجب.
– كتاب: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، للشيخ عمر الأشقر.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة