معلوم ٌأنّ جملة قواعد القانون الدولي التي تحتكم إليها الأسرة الدولية اليوم تعود إلى نتائج الحرب العالمية الثانية، إذ عملت الدّول المنتصرة -وأغلبها من العالم الغربيّ- على تكريس مصالحها وقِيمها ومُثُلها على باقي دول العالم.
عرفت حركات التحرر الوطني انتعاشا ملحوظا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وانتهت إلى ولادة عدد هائل من أشخاص المجتمع الدولي دولا وتنظيمات إقليمية. وتميّزت هذه الدول خاصة بتنوع ثقافي وحضاري مغاير للكيانات الاستعمارية، وكانت النتيجة وجود مجتمع دولي جديد قابل للتّوسع والتّمدد، ذو تعدد حضاري لكنه مُقيَّد بقواعد المنتصرين الغربيين خاصة في الحرب العالمية الثانية والذين ينتمون إلى حضارة وقيم ومبادئ ثقافية واحدة ومتماثلة. وهنا وقعت الفجوة الكبرى بين الواقع المعيش ومدى عدالة القواعد القانونية الدولية إذ لم يعد هذا القانون عاكسا للواقع، بل وفي أحايين كثيرة أضحى مناقضا لمصالحها وماسّا بسيادتها ومُعطِّلا لتطلعاتها في الحرية والسّيادة والتّنمية.
إنّ هذا التّناقض الرّهيب اليوم في العالم بين قواعده القانونية وممارسات الدول الأكثر حيازة للقوة هو الذي يعكس حالة عدم الأمن وعدم الاستقرار في معظم القرارات، كما أنّ هذا التناقض مع مرور الوقت قد انكشفت سوءاته في مظالم شتى ومنها فقدان شعوبٍ لأقاليمها بل وزوال شعوبٍ وثقافاتٍ لتحِلّ محلّها قوّة تدميرية تُشكِّل اليوم الإمبراطورية الكبرى في العالم.
إنّ الطوفان لم يعد يعني تحرر الفلسطينيين من براثن الصهيونية فقط، بل أصبح نهجا جديدا لتحرير العالم من سيطرة الحركة الاستعمارية في نسختها الجديدة المُعدَّلة التي تُمارِس الاستعباد باسم “الحرية”، والإبادة باسم “الدفاع عن النّفس”، والنّهب باسم “تبادل المصالح”، والعمالة باسم “السّلم والتعاون”.
إنّ القوّة -للمرّة المليون- لا تعني الحق، فالحق كان وسيظل مرتبطا بالعدل لا بالقوة. ومادام قانون القوة هو السّائد فلا استقرار ولا عيش بسلام، ولن يكون ذلك إلا بسيادة العدل، وما لم نصل إلى هذه النتيجة فإنّ العالم لن يهنأ بالسلم والأمن الذي رُفِع شعاره طويلا ثم كذّبته الممارسات المتكررة للإمبراطورية وحلفائها.
والحقيقة أنّ انتصار حركات التحرر كان يحمل في طيّاته بذور رفض الهيمنة الاستعمارية على المستويات السياسية والتنموية والقانونية، ونظرا لحداثة ميلاد كياناتها السياسية كدول فإنّها لم تمتلك وسائل القوة الكافية لفرض توجُّهاتها في تعديل القواعد القانونية المنظِّمة للعلاقات الدولية لاسيما في الجوانب الاقتصادية والأمنية، الأمر الذي أطال عمر السيطرة الأمريكية خاصة والغرب عموما على دول وشعوب العالم الجديد وفرْضِ سرديّتها حول حقوق الإنسان والديمقراطية والحكامة الرّاشدة.
ورغم بريق هذه الشّعارات ونُبل مضامينها إلّا أنّها اتُّخِذت من طرف الغرب وسائلا للتّحكم في مصائر الشعوب والدول حديثة العهد بالاستقلال، وتبيّن لاحقا أنّها شعارات بمضامين ماكرة لاستدامة السيطرة على ثروات الشعوب واستمرار نهبها.
ولكُم في المعاهدات المتعلقة بالتّسلح، وحركة الأموال، وأخطبوط الشركات العابرة للحدود، والأحلاف العسكرية، والتّكتلات السياسية والاقتصادية أبرز نموذج لاستدامة هذه السيطرة وشرعنة هذا النهب والنصب.
حاولت دولٌ كثيرة عبر حركة عدم الانحياز تغيير هذا الواقع لكنها لم تحقق شيئا يُذكر، وتبيّن بالمكشوف في كل مناسبات التصويت عبر الجمعية العامّة للأمم المتحدة أنّ أغلب دول الأسرة الدولية ضد هذه السيطرة الاستبدادية في العالم، ولكن القواعد المُنظِّمة لهذا التنظيم الدولي كانت دائما تقف حاجزا مانعا للتغيير والتطوير.
إذن ماذا تعني الديمقراطية في الغرب إذا لم تكن التمكين لإرادة الأغلبية؟ وهنا يتأكّد أنّ مفهوم الديمقراطية عند الغرب مازال يعاني من سيطرة التّمييز وازدواجية المعايير والتي كشف طوفان الأقصى مؤخرا سوءاتها وجرّدها من ورقة التوت التي تستّرت بها طيلة هذه المدّة كما كشف زيف شعارات أخرى كحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني.
إنّ الطوفان لم يعد يعني تحرر الفلسطينيين من براثن الصهيونية فقط، بل أصبح نهجا جديدا لتحرير العالم من سيطرة الحركة الاستعمارية في نسختها الجديدة المُعدَّلة التي تُمارِس الاستعباد باسم “الحرية”، والإبادة باسم “الدفاع عن النّفس”، والنّهب باسم “تبادل المصالح”، والعمالة باسم “السّلم والتعاون”.
الحق واحدٌ لا يتحقق لأهله إلّا بالتمكين لقواعد العدل والمساواة، ولا يمكن أن يسود هذا المنطق إلّا بزوال العقيدة الاستعمارية في نسختيها القديمة والحديثة، وهو أمرٌ لا يمكن أن يرى النور إلا بطوفان جديد هدفه وغايته كرامة الإنسان بغضّ النظر عن جنسه ودينه وعِرقه وثقافته.
إنّه لا ديمقراطية ولا حرية ولا كرامة إنسانية في عالم اليوم دون الاقتناع والتّمكين لقاعدة التّعدد الحضاري في العلاقات الدولية.
الحلُّ في طوفان جديد
عبد الوهاب دربال
2024/06/08
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.