اضراب الطلبة 19ماي 1956 « الشهادات لن تصنع منا أحسن الجثث»
اضراب الطلبة 19ماي 1956 « الشهادات لن تصنع منا أحسن الجثث»
2024-06-06
د. مراد قمومية/
رسالة قوية جاءت في الموقف التاريخي للطلبة الجزائريين الذين أعلنوا إضرابهم الشهير يوم 19 ماي 1956 ضد الاستعمار، ثم التحقوا على إثره بالثورة التحريرية وضربوا واحدا من أروع نماذج التضحية.
الصراع النفسي والقرار الصعب:
تخيل وأنت في السنة الأخيرة من دراستك الجامعية وعلى أهبة الامتحانات النهائية خلال شهر ماي، لم يبق بينك وبين تلك الشهادة العزيزة، شهادة التخرج، في ظل ظروف استعمارية قاهرة، سوى أن تجتاز الامتحانات النهائية بنجاح، لِتَحْصُل على شهادتك الجامعية وتتاح لك الفرصة إلى حياة السعي للعمل والكسب والترقية في الدرجات والمناصب.. في تلك الظروف الصعبة والمغرية تدعى إلى إضراب مفتوح لا تدري تداعياته ولا عواقبه ولا نتائجه السلبية عليك، المصير مجهول، وفرصة العودة إلى الدراسة قد لا تتكرر على الغالب، وتتبخر معها الشهادة الجامعية وسنوات الدراسة التي سبقتها، بل قد تساق إلى السجن أو القتل، ما لم تحسن الاختباء أو تلتحق بالجبال.
في تلك الظروف النفسية المتوترة أعلن الطلبة إضرابهم المفتوح، في زمن قل فيه من يقرأ ويكتب فضلا عن امتلاكه شهادة جامعية في ظل ظروف استعمارية قاهرة، وضربوا فيه أروع مثال للتضحية من أجل القضايا الوجودية المشتركة حيث تكون المصلحة عامَّةً تغيِّر مصير ليس الأحياء فقط، بل تغير مصير أجيال ممتدة نحو المستقبل.
العبرة هنا والاقتداء الفعلي عندما نضع أنفسنا في الصراع النفسي ذاته الذي عاشه أولئك الطلبة بين المستقبل الوظيفي الشخصي وبين المصلحة العامة الكبرى للأمة، هل تنتصر داخل ذواتنا قراراتنا لمصلحة الأمة ولو على حساب مكاسبنا الشخصية، إنه لقرار صعب.. ولذلك يعتبر يوم 19 ماي 1956 من أعظم نماذج التضحيات الكبرى في تاريخ الجزائر الحديث.
من نتائجه الملموسة والمباشرة أنه أعطى دفعا قويا مضاعفا للثورة، وأمدها بروح ودماء جديدة لاستكمال مهمتها التحريرية.
مثلما يوجد المعلوم من الدِّين بالضرورة والذي لا يجوز الجهل به، كذلك يوجد المعلوم من التاريخ بالضرورة والذي لا يجوز الجهل به، المناسبة مناسبة عيد الطالب فلا يعقل أنه يجوز للطالب على الخصوص والجزائري على العموم أن يحتفل بيوم الطالب وهو يجهل تاريخه، وهذا للأسف موجود عندنا.
وهذه إطلالة سريعة على الحدث، على أن المعرفة بالتاريخ ليست معرفة بالماضي فقط، بل هي معرفة بالحاضر الذي هو من النتائج الطبيعية للتاريخ الماضي، وهي أيضا معرفة بالمستقبل إذا ما أحْسَنَّا استشرافه على هدي دروس قصص الماضي وعبرِه.
تبلور فكرة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين:
كانت الثورة في نقص كبير من ناحية الكوادر والإطارات والمثقفين بشكل عام، ولذلك كانت تعاني صعوبات كثيرة في نواحي عديدة خاصة في مجالات: القضاء والاعلام والصحافة والعلاج والتعليم والدبلوماسية والإدارة.. هذا إضافة إلى الاحتياج في العنصر البشري المناضل المجاهد الذي يقف في وجه العدو في ميادين القتال والتخطيط والقيادة. في مثل هذه الظروف نشأ ” الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين”.
فكرة إطار تنظيمي للطلبة قديمة، ربما يمكن ارجاعها لعام 1919 بالجزائر وعام 1953 بفرنسا، وقد كان الطلبة المسلمون الجزائريون في جامعة الجزائر يهدفون إلى العمل في إطار وحدوي مغاربي، لذلك سموا تنظيمهم باسم “ودادية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا” ثم غيروا الاسم سنة 1926 إلى “جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين لإفريقيا الشمالية” (AEMAN).
استقطبت جمعيتهم الطلابية العديد من الطلبة المسلمين الجزائريين، ووفرت جو التقارب والتفاهم بينهم، وقامت بإصدار مجلة تهتم بقضايا الطلبة واهتماماتهم الدراسية والاجتماعية والمشاركة في الملتقيات الطلابية، وتكلل مسعاها بالحصول على منح دراسية للطلبة الجزائريين، وحصولها على المساواة بتأجيل الخدمة العسكرية مع الطلبة الفرنسيين، وتحصلوا على جناح خاص بالطلبة الجزائريين بالحي الجامعي، وتعتبر هذه انجازات لا يستهان بها في ظل السياسة الاستعمارية التي تميزت بالعنصرية وعدم المساواة.
وأما طلبة شمال إفريقيا (الجزائر، تونس، المغرب) الذين يدرسون بجامعات فرنسا فكوَّنوا جمعية واحدة تمثلهم وتوحد نضالهم ونشاطاتهم، ثم سعوا بعد الحرب العلمية الثانية إلى انشاء تنظيم مغاربي موحد لجميع الطلبة بفرنسا وبأوطانهم، وتم لهم ذلك سنة 1953 تحت مسمى “الاتحاد المغاربي للطلبة المسلمين” غير أن هذا الاتحاد لم يستطع العمل ميدانيا كما خُطط له، لا سيما بعدما أصر الطلبة التونسيون على تأسيس اتحاد خاص بهم، الأمر الذي دفع بالطلبة الجزائريين إلى إنشاء اتحادهم الخاص ليشمل جميع الطلبة الجزائريين حيثما كانوا.
وعند الشروع في الاستعداد لهذا المشروع ظهر خلاف بين جناح يريد اتحادا وطنيا للطلبة الجزائريين مفتوح لكل الذين ينتسبون للجزائر على اختلاف أصولهم بما فيهم الأوربيون واليهود، وبين جناح يريد اتحادا للطلبة الجزائريين المسلمين فقط.
ولقد بادر أصحاب الاتجاه الأول إلى تأسيس اتحاد الطلبة الجزائريين لباريس (UEAP) في ديسمبر 1953، ولما لاحظ التيار الوطني سيطرة الشيوعيين على هذا الإتحاد وجعلوه أداة في أيديهم، رفضوا قبول أفكارهم وسعوا إلى تكوين اتحاد يقتصر على الطلبة المسلمين الجزائريين، ليؤكدوا من خلاله على هويتهم العربية والإسلامية، فسعوا إلى تنسيق عملهم بالجزائر وفرنسا، وتعززت توجهاتهم الوطنية أكثر بعد اندلاع الثورة التحريرية في نوفمبر 1954، فقد كانت بمثابة المسرع للمساعي، والحاسمة في شأن التركيز على الاتجاه الوطني الذي يحفظ الخصوصية الحضارية.
ومن خلال منشور وجهته “جمعية الطلبة المسلمين لإفريقيا الشمالية بالجزائر” بتاريخ 27 فيفري 1955 تمت دعوة كل الطلبة الجزائريين داخل الجزائر وخارجها إلى المشاركة في الندوة التحضيرية لتأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، وهي الدعوة التي استجاب لها أيضا “اتحاد الطلبة الجزائريين لباريس”.
وقبل عقد الندوة التحضيرية تم عقد جمعيات عامة في كل جامعة لاختيار مندوبين يمثلون الطلبة وينوبون عنهم في التصويت، وبسبب أصداء الثورة التحريرية والجهد المتواصل الذي بذله الطلبة الوطنيون رجحت كفة الاتجاه الوطني وانتخب ممثلوه لحضور هذه الندوة.
معركة حرف “الميم”.
عقدت الندوة التحضيرية بباريس بمقر جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا بين 04 و07 أفريل 1955، وأكثر ما ميزها شدة الصراع حول إثبات أو حذف كلمة (مسلمين) من تسمية الاتحاد، أو ما عرف بحرف الميم في تسمية الاتحاد:
فالطلبة الشيوعيون كانوا يرفضون إدراج كلمة مسلمين في العنوان بداعي جعله اتحادا مفتوحا لكل الطلبة الذين يقبلون أن يكونوا جزائريين بما فيهم الأوروبيون واليهود.
بينما الطلبة الوطنيون ألحوا على ضرورة إثبات كلمة (مسلمين) حتى يكون الاتحاد جزائريا صرفا يضم الطلبة المسلمين الجزائريين فقط، الذين كانوا يعيشون في ظروف (أهالي)، ليُظهر هويتهم العربية الإسلامية، لأن الطلبة الجزائريين من أصول أوروبية ويهودية كانت لهم امتيازاتهم باعتبارهم مواطنين فرنسيين، كما أن دخولهم إلى الاتحاد يميِّعه ويجعلهم يسيطرون عليه لأنهم كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة على مستوى التعليم العالي، ما يُفقد الطلبة الجزائريين صفة التمثيل باعتبارهم أقلية مقارنة بهؤلاء، وفي نهاية الجدل رجحت الكفة للجناح الوطني، وانسحب الطلبة الشيوعيون ومناصروهم وعقدوا ندوة أخرى خاصة بهم.
انعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد ما بين 08 و14 جويلية 1955 بقاعة التعاضدية بباريس بحضور ممثلين عن الطلبة الجزائريين من الجزائر ومن الجامعات الفرنسية بفرنسا ومن الزيتونة والقيروان إلى جانب حضور ممثلين عن منظمات مغربية وإفريقية وفرنسية.
وتم الإعلان الرسمي عن تأسيس “الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين” (UGEMA)، وتحديد أهدافه وبرنامجه، كما اُنتخب أحمد طالب الإبراهيمي أول رئيس للاتحاد، ومولود بلهوان أمينا عاما، ولعياشي ياكر نائبا للرئيس، وعبد الرحمن شريط أمينا عاما مساعدا، ومحمد منصور أمينا للمال.
أنشأ الاتحاد له فروعا في جامعة الجزائر وفي الجامعات الفرنسية بفرنسا التي بها طلبة جزائريون، وكان متحفظا في نشاطاته في سنته الأولى بسبب ظروف التأسيس، ولكنه قفز إلى قلب المعركة خلال مؤتمره الثاني 24 و30 مارس 1956 بباريس، وصوَّت المؤتمرون على لائحة جاء فيها المطالبة بما يلي:
– استقلال الجزائر.
– إطلاق سراح كل الوطنيين المسجونين أو المعتقلين.
– المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني.
وتصاعد بعدها نشاط الاتحاد ولم يستكمل شهرين بعد المؤتمر (أي يوم 19 ماي 1956) حتى أعلن عن الإضراب المفتوح الذي انضم على إثره الطلبة إلى الثورة التحريرية أفواجا أفواجا. بدأ من جامعة الجزائر ودعمه طلبة المدارس الثانوية بقوة من خلال المشاركة والتعبئة، ثم التحق به طلبة الجامعات الفرنسية في 25 ماي 1956.*
الرؤية المستقبلية.
وبعدما لقي الإضراب نجاحا باهرا وتعبأت خلايا الجبهة بالإطارات تعبئة عامة كافية داخليا وخارجيا، أمرت بتوقيفه في 14 أكتوبر 1957 بعدما استغرق 17 شهرا كاملة، وفي هذا الشأن جاء في مجلة المجاهد (11 نوفمبر 1957) : “هناك أدرك الطلبة أن مرحلة الكفاح بالإضراب قد انقضت، لأن الأهداف التي قرروا من أجلها الإضراب قد تحققت، وأنه جاء دور مرحلة تاريخية حاسمة هي مرحلة تحضير الأساس وبناء المستقبل الذي يفرض عليهم المزيد من العلم والاختصاص في فنون عديدة ومتشعبة… بعد 17 شهرا لقنوا أثناءها دروسا لا توجد في الكتب ولا في الجامعات”.
وما تزال هذه الرسالة مستمرة تستحث الأجيال، فهي رسالة الحياة؛ تحث كل طالب اليوم أن يكون مثالا لخدمة وطنه وأمته والإنسانية بما تخصص فيه من علم بإخلاص واتقانٍ وتفانٍ وتضحية، أن يضرب المثل في الجدية والنزاهة والاهتمام لقضايا وطنه وأمته الكبرى، وأن يخرج من قوقعة اختصار التخصص العلمي في الوظيف والرغيف، وإن كان ذلك حقا مشروعا فهو ليس كافيا لتحقيق الاستخلاف الذي أراده الله تعالى منا في الأرض.