يتواصل مسلسل الإبادة الجماعية في غزة بكل وحشية، وتتواصل في المقابل جهود المجتمع الدولي لكسب رهان الاعتراف بدولة فلسطين. وقد كُللت هذه الجهود باعتراف دول في أمريكا اللاتينية وأخرى كانت معروفة بولائها للكيان الصهيوني بفلسطين، وتعززت هذه الجهود باعتراف دول أوروبية، وهي: إيرلندا وإسبانيا والنرويج في انتظار التحاق دول أوروبية أخرى أبدت رغبتها في ذلك.
اعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بفلسطين جاء لدعم حلف الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين الذي ضم فيما سبق، السويد، كما ضم بلغاريا وقبرص والتشيك والمجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا ومالطا، وذلك قبل انضمام الدول الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي.
إن انضمام هذه الدول سيفتح الباب لالتحاق دول أوروبية أخرى، مما سيسبّب حرجا كبيرا لبريطانيا التي لا تزال متشبّثة بموقفها التاريخي من فلسطين على أنها “هبة الله لشعب الله”.
جاء اعتراف إسبانيا بفلسطين عقب التغيرات السياسية التي شهدها هذا البلد الأوروبي الذي تحرص قيادته الجديدة على التمسك من جهة بالهوية الأوروبية، وعلى الاحتفاظ من جهة أخرى بعلاقاتها مع العالم العربي التي بدأت منذ وقت مبكر، وهذا رغم الصراعات التاريخية التي عكّرت صفوها من دون أن تحدث القطيعة النهائية بين مملكة إسبانيا والعالم العربي.
ورغم أن حكومة بيدرو سانشيز معروفة بتحيُّزها إلى إسرائيل، إلا أن تمادي نتنياهو في جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وموجة التنديد الدولية وضعت حكومة سانشيز أمام خيار واحد لا ثاني له، وهو الاعتراف بدولة فلسطين، استجابة لنداءات داخلية ضاغطة، وعقابا لنتنياهو الذي لا يحمل مشروع سلام، كما وصفه سانشيز: “رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ليس لديه مشروع سلام لفلسطين، وذلك على الرغم من أن الدول الأوروبية المنتقدة للاعتراف ترى أنه يمكن تفسيره من قبل حماس كمكافأة على إرهابها”.
ورغم أن اعتراف النرويج وإيرلندا بفلسطين، لا يرقى من حيث أهميته الدبلوماسية إلى اعتراف إسبانيا التي تمثِّل قطبا مهما في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يشكّل مكسبا دبلوماسيا يصب في مصلحة فلسطين، ويشل الحلف الصهيو أمريكي الذي يناهض ويجهض كل محاولات إدانة إسرائيل.
آخر الأخبار تتحدّث عن اعتراف سلوفينيا بدولة فلسطين الذي سيدخل حيز التنفيذ بمجرد تصويت البرلمان السلوفيني، وهو التصويت الذي سيمر بكل سهولة بالنظر إلى أن هذا البرلمان لا توجد به أحزابٌ يمينية متطرفة. وتدل كثيرٌ من المؤشرات على أن سلوفينيا لن تكون الدولة الأوروبية الأخيرة التي تعترف بفلسطين، بل ستتبعها دولٌ أوروبية أخرى، مما يشكل نصرا دبلوماسيا كبيرا للقضية الفلسطينية التي اكتسبت بعد “طوفان الأقصى” ما لم تكتسبه قبل ذلك، بفضل صمود الشعب الفلسطيني وتمسُّكه بحقه في تقرير المصير وبفضل عمل المنظمات الحقوقية والإنسانية التي فضحت الاحتلال وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة.
يجب التأكيد أن مغنم الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ينبغي أن لا يتحوّل إلى مغرم كما ينبغي أن لا تتخذه بعض الأطراف وسيلة لتكريس فكرة “الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح”، التي تعيد رسكلة السلطة الفلسطينية الحالية في صورة دولة بسلطات وصلاحيات أوسع مع بقاء دولة الاحتلال الآمر الناهي.
من المضحك أن يعلِّق نتنياهو على اعتراف بعض الدول الأوروبية بدولة فلسطين بأنه “خروجٌ عن الميثاق الأوروبي، وانحراف عن مبادئ الديمقراطية الأوروبية”، وأن يدعوها إلى مراجعة مواقفها مع علمه بأن أوروبا اليوم –كما جاء على لسان بعض قادتها السياسيين- ليست أوروبا الأمس، وبأنها فقدت ثقتها في نتنياهو والحكومة الإسرائيلية، وبأنها ليست مستعدة للتضحية بمبادئها وصمِّ آذانها عن النداءات الداخلية والخارجية من أجل توفير الحماية لنتنياهو وحكومته والاستمرار في دعم مشاريعه التدميرية التي لا تخدم أمن أوروبا ولا أمن إسرائيل ولا الأمن الدولي.
لقد ازداد عدد الدول المعترفة بفلسطين، ولم تبق للكيان الصهيوني جبهة داعمة إلا ما يجده من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول، وحتى هذا لن يستمرّ إلى الأبد، فالولايات المتحدة الأمريكية بقيادة جو بايدن أبدت امتعاضا كبيرا من نتنياهو، الذي يتمسكّ بنصر واهم ويرفض كل مقترح لوقف الحرب، وآخره قبوله لمقترح جو بايدن لوقف الحرب على مضض واشتراط ذلك باستكمال تحقيق أهداف الحرب والقضاء على حماس، ورسم معالم القيادة الجديدة في غزة ما بعد الحرب من دون حماس أو تشكيل سياسي آخر من المقاومة أو من يدعمها.
لا شك أن زيادة وتيرة الاعتراف الدولي بفلسطين ستزيد من عزلة الكيان الصهيوني، لكن المفارقة أن هذا الكيان لا يكترث مطلقا لهذه العزلة الدولية لأنه كيان اعتزالي، لا يؤمن بالمجموعة الدولية ولا بالقرارات التي تتخذها الهيئة الأممية ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، طالما أنه ضامن لبقاء الغطاء الأمريكي الذي يوفر له السند والمدد ويحمي ظهره من كل ضربة تستهدفه ويستخدم الفيتو ضد كل قرار يدينه.
رغم تعنُّت نتنياهو وتجاهله للمجتمع الدولي، إلا أننا واثقون من أن جهود الجزائر وجهود المجموعة العربية والدولية في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة لن تذهب سدى، وسيذعن نتنياهو آجلا أم عاجلا للأمر الواقع، ويبدو أن بوادر ذلك قد بدأت، فنتنياهو لا يملك إلى حد الآن ورقة رابحة يضمن بها المضيَّ في عمله العدواني على غزة في ظل تزايد حالات الفرار من الخدمة العسكرية في صفوف جنود الاحتياط، وفي ظل حالة التخبُّط والتشاكس التي يعيشها ما يسمى “مجلس الحرب”، وكذا نقص إمدادات السلاح بسبب امتناع كثير من الدول عن بيع الأسلحة لإسرائيل.
وأوضح بيانٌ الخارجية الروسية دلالات تزايد الاعتراف الدولي بفلسطين، إذ أشار وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى أن “تقدُّم مفاهيم السلام المختلفة وتوسيع دائرة الدول التي اعترفت بدولة فلسطين، يشهد على تنامي موقف الأغلبية العالمية المؤيد لحل عادل مستعجل للقضية الفلسطينية كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط”.
وحلل الكاتب “أحمد عويدات” في “القدس العربي” أبعاد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ووصفه بأنه “خطوة في الاتجاه الصحيح”، وهذا مقطع مما جاء في مقاله المعنون: “الاعتراف الدولي بدولة فلسطين: خطوة في الاتجاه الصحيح”: “يكتسب الاعتراف أهمية جيوسياسية؛ لأنه يأتي من دول مهمة في أوروبا، كانت حليفة للكيان، وواقعة تحت الضغط الأمريكي والدول الحليفة الأكثر قوة ونفوذاً في أوروبا. وأكد هذا الاعتراف عدم شرعية الاحتلال أمام كل دول العالم، وبالتالي بطلان وإلغاء الإجراءات كافة التي اتخذها ويتخذها الاحتلال من استيطان ومصادرة وضم أراضٍ إلى ما يزعمه “دولة” إسرائيل. من جانب آخر، شكل هذا الاعتراف دفعاً معنوياً لنضالات الشعب الفلسطيني، وتعزيزاً لصموده ومقاومته للحصول على حقه بالعودة وتقرير المصير”.
إن الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، هو رسالة من المجتمع الدولي إلى نتنياهو بأن عصر الديكتاتوريات قد انتهى وبأن زمن اللاعقاب قد ولى، وبأن إنهاء الاحتلال الصهيوني قد أصبح خيارا دوليا وبأن تكريسه في الواقع هو مسألة منتهية وغير قابلة للتفاوض.
يجب التأكيد أن مغنم الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ينبغي أن لا يتحوّل إلى مغرم كما ينبغي أن لا تتخذه بعض الأطراف وسيلة لتكريس فكرة “الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح”، التي تعيد رسكلة السلطة الفلسطينية الحالية في صورة دولة بسلطات وصلاحيات أوسع مع بقاء دولة الاحتلال الآمر الناهي.
إن أخشى ما نخشاه هو أن يسفر الاعتراف الدولي بدولة فلسطين إلى إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وهو ما تتحمَّس له بعض الأطراف ويروّج له الكاتب الأمريكي “توماس فريدمان” الذي قال في مقال له بصحيفة “نيويورك تايمز”: “تحتاج الأطراف الرئيسية في الشرق الأوسط اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التحرُّك صوب الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح”.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.