«الإبراهيمي هو جمعية العلماء»، هذه الجملةُ جزءٌ من تقرير استخباراتي فرنسي صادرٍ سنة 1950م عن مصلحة التنسيق الشمال الإفريقي، تتبعت فيه الإدارة الفرنسية نشاط الإمام الإبراهيمي متابعة دقيقة، رصدت فيه حركاته وسكناته وكثيرا من أفكاره ومقالاته.
المتابعة الدقيقة
لم يغِب الإمام الإبراهيمي عن المخابرات الفرنسية طرفة عين؛ إذ تتبعت تنقلاته من خلال السيارة التي كانت تُقلّه، وهي من نوع سيتروان (citroen) 15 حصانا، المرقمة بـ (6950 Al 20)، المسجلة باسم الإمام الإبراهيمي نفسه.
وتتبعت شُهُبَه التي كان يلقيها على المستدمر في البصائر، فكانت المخابرات الاستدمارية تترجمها باستمرار، وتتجرع ما فيها بمَرار، من ذلك ترجمة مقاله النّاري الصادر في العدد 103 لسنة 1950م، والذي عنونه الإمام باستفهام اسفزازي: (هل فرنسا دولة لائكية؟)، أحرج فيه الاستدمار غاية الإحراج، معتبرا الحاكم العام على هامش الموضوع لأنّ البحث في صدق دعوى لائكية الدولة الفرنسية لا في أفرادها الميؤوس منهم.
تتبعت الإدارة الفرنسية أيضا، نشاطه العلمي في دمشق سنة 1916م، وزعمت أنّه ذهب طالبا للعلم بينما دخلها عالمًا، إذ عرض عليه الأمير فيصل بن الحسين دائرة التعليم، لكنّه اكتفى أن يكون أستاذًا للآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية، ليقوم بحاجته وحاجة والده وأتباعهم، وتخرج على يديه في ظرف سنة واحدة جماعة من الصفوف الأولى الذين صاروا في طليعة الصفوف العاملة في حقل العروبة.
ثمّ أخطأت الإدارة الفرنسية مرة أخرى، حين سجّلت عودة الإمام إلى الجزائر، ليمتهن تجارة الشحوم والتوابل التي أفلس فيها، ظنّا منها أنّ الإمام مَخلوقٌ للتجارة، والحقيقة أنّ هذه الحركةَ مناورةٌ من الشيخ الإبراهيمي ليُعَمّيَ عن المستدمر، لأنّ حركاتِه منذ حلّ بأرض الوطن كانت مثار رَيب ومنبع شكوك، ومع ذلك لم ينقطع الإمام عن استقبال الوافدين عليه من طلبة العلم المستترين بجُنح الظلام.
شخصية الإبراهيمي وفكره
اعترفت الإدارة الفرنسية بحسب ذات التقرير، أنّ ثقافة الإبراهيمي وحسّه الخطابي مع حدّة ذكائه وراء تأثيره على من حوله، وغاصت في عقل الإمام وفكره، فقدّرت أنّه إخواني سياسيا، وأنّه سلفي عقديا، مع التركيز على أنّه ليس وهابيا، في التفافة واضحة إلى التدقيق في فكر الإمام ومنهجه.
وفعلاً فإنّ الإمام كان قريبا من الإخوان المسلمين في مصر، فقد فتحوا له مراكزهم ونواديهم للمحاضرة فيها والمشاركة في أنشطتها، ممّا تسبب له في بعض المشاكل مع الضباط الأحرار. وكذلك احتفى الوهابيون بالإمام عندما نزل عندهم بالحجاز، لمّا شهدوا تمسكّه بنهج الرعيل الأول، لكنّ ذلك لم يمنعه من التميّز عنهم، فانتقدهم في قضية تعليم المرأة، والفتوى، وبعض مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دوره في التربية والتعليم
أمّا دوره في التربية والتعليم فكوكب آخر، إذ جاء في هذا التقرير أنّ الإبراهيمي أسّس الهيئة العليا للتعليم، في ما يشبه وزارةَ تربية شعبية كما كان يحلو للشيخ شيبان أن يسميها. كانت هذه الهيئة ملمّة في ذلك الوقت بالطرق الأمريكية والسويسرية في البيداغوجيا وعلم النفس، وتطوّرها في التعليم القرآني، وأنّ الإمام رصد لها ميزانية معتبرة قُدرت بأزيد من (19 مليون فرنك فرنسي) سنة 1948م. لكنّ هذه الهيئة كانت تُعاني من أزمات مالية خانقة بالنظر إلى كثرة المنتسبين إليها من أساتذة ومفتشين وإداريين، ممّا حمل الإمام على بيع بعض عقارات الجمعية سدّا للفاقة. ومع ذلك كان هذا العقل الكبير يفكر في مصادر أخرى للتمويل كاقتناء حمامات أندلسية، ومقاه، ودور سينما، ليعود ريعها على مدارس جمعية العلماء.
اعتبرت الاستخبارات الفرنسية هذه المدارس معاقل للوطنية، وأنّ العلماء يشوهون صورة فرنسا في مدارسهم، ويصقلون نفسيات تلاميذهم بمعاداه فرنسا، وأنّها انتقلت من التربية الإسلامية إلى التربية السياسية. وقد حفظت الجريدة الرسمية الفرنسية مُداولةً للبرلمان الفرنسي سنة 1958م، قال فيها النائب الفرنسي أحمد جبور القريب من جون ماري لوبان:«اعلموا أنّ جمعية العلماء استعملت مدارسها الحرّة لتعلم اللغة العربية وتوظفها ضدّ فرنسا، وهي مع ذلك تنتج قادة للثورة».
العلماء لا يُخرجون خلافاتهم للعلن
ومع ذلك فإنّ جمعية العلماء جمعيةٌ بشرية لا ملائكية، يقع فيها ما يقع بين البشر، وقد وقع بعضه بين أفاضل الصحابة، فقد كانت الضائقة المالية سببا في بعض الخلافات الداخلية في جمعية العلماء، إذ كانت بعض الآراء تميل إلى عدم بيع عقارات الجمعية، إلى درجة الثورة على الإمام والتحريش بينه وبين الشيخ العربي التبسي. هذا، وقد اعترفت الإدارة الفرنسية أنّ رصد هذه الأزمات صعبٌ عليها، لأنّ العلماء لا يخرجون خلافاتهم للعلن.
الإمام المجاهد
بقي الإمام يجاهد فرنسا في كل ميدان، يحدوه إلى ذلك بُغضها وقد اعترف ذات التقرير بأنّ «الإبراهيمي يُعادي الوجود الفرنسي في الجزائر»، وأنّ «كره فرنسا يُلهم الإبراهيمي، وهو يستحسن كلّ تحالف ضدها وإن كان مع الحزب الشيوعي»، وأنّه «دعى إلى استقلال الجزائر منذ سنة 1938م بدعم من إيطاليا الفاشية»، وأنّه «رفض حضور الاحتفالات الرسمية المقامة لرئيس الجمهورية سنة 1949م»، وأنّه « سعى جاهدا لتحرير الأوقاف الإسلامية والقضاء الشرعي والتعليم العربي»، وأنّه «أسهم مساهمة كبيرة في إنشاء الحكومة المؤقتة»، وأنّه «دعى إلى الجهاد من أول يوم للثورة، وأنّ الجهاد لا يُسقى بالماء بل بالدم».
هذا كلّه، جعل الإدارة الفرنسية تقدّر أنْ «لا فرق بين جمعية العلماء، والأحزاب المتطرفة، إذ كلاهما يطالب بالاستقلال التام عن فرنسا».
الإمام والقضية الفلسطينية
أمّا دوره في القضية الفلسطينية فلا يستوعبه هذا المقالُ وغيره، وإظهاره هنا في هذا الوقت كشفٌ لعورتنا، وإبراز لخَوَرنا، وقد يكفي القارئَ الكريم علما أنّ الإبراهيمي وهو تحت نير الاستدمار، يحبسه ويضيّق عليه أنفاسه، قد جمع الأموال لفلسطين وأرسلها في حينها، وحرّض الشباب على الجهاد، وابتعثهم إلى فلسطين مع الثقات من المجاهدين، وفضح الصهيونية بما لم يكشفه غيره، وزأر في وجه المستدمر: «فرنسا مُسْتَعمَرة يهودية»، ثمّ خلفتُه أنا وكثيرون، تسمينا باسمه وتدثرنا بوسمه، ثمّ اكتفينا بمتابعة أخبار رفح عبر قناة الجزيرة.
* عضو المكتب الوطني مكلف بالنشاط العلمي وإحياء التراث
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.