عندما أصبح الغشّ عصَبا للتّجارة! / ل- سلطان بركاني
يحدث أن تمرّ في الطّريق ببائع متجوّل، يبيع الخضر والفواكه، فتأسرك الألوان الزاهية والأنواع الجيّدة التي تراها عيناك، فلا تملك إلا أن تتوقّف، لتقتني حاجتك منها. وتزداد رغبتك في الشّراء عندما تلحَظ أنّ الأسعار التي يعرضها أقلّ من تلك التي يعرضها الباعة في المحلاّت، وربّما تجده قد أعدّ بعض الخضر في أكياس تحمل أوزانا معيّنة بأسعار محدّدة، ليختصر على المشترين وقت الانتظار، فتأخذ حاجتك وفي ظنّك أنّ ما في الكيس هو ممّا رأته عيناك في الصّناديق أمامك، خاصّة وأنّ ما في أعلاه يدلّ على ذلك.
تقتني حاجتك وتعود إلى البيت فرحا بالصفقة الرّابحة، وما أن تفرغ المحتوى حتى تفاجأ بأنّ ما في أسفل الكيس هو خلاف ما رأت عيناك، حيث انتُقي بعناية من النوعية الرديئة التي تضطرّ إلى رميها في القمامة. هذا إن كنتَ مستعجلا وقبلت بأخذ السّلعة الموزونة سلفا، أمّا إن أصررت على البائع أن يزن ويعطيك ممّا رأته عيناك، فإنّك تُفاجأ به يمدّ يده سريعا إلى كفّة الميزان ويملؤها من الجهة الأخرى التي لم ترها عينك، فإذا أنكرت عليه خلط الجيّد بالرّديء، أجابك: هذه هي السّلعة، وأنا أيضا هكذا اشتريتها!
هذا السّلوك يكاد يكون ديدنا للباعة المتجوّلين جميعا، بل ربّما أصبح من أدبيات التجارة الفوضوية، بل والتجارة النظامية أيضا، فأكثر التجّار يخلطون الرّديء بالجيّد، ويبيعون الجميع بسعر واحد، وإذا ما سألتهم عن صنيعهم، تعلّلوا بأنّهم يشترون من تجار الجملة بهذه الصّفة! تجّار الجملة بدورهم يتعلّلون بأنّهم يشترون السّلع مغشوشة من المموّنين، الذين يضعون النّوعية الجيّدة في أعلى الصّناديق والرّديئة في أسفلها!
وبإزاء هؤلاء التجار، تجار آخرون، يحلفون بالكذب على جودة سلعهم التي يبيعون، مع أنّهم لا يعلمون عنها شيئا، وربّما يعلمون لكنّهم يكذبون لينفقوها على من لا يملكون خبرة بجودة السلع.. تجد هذا السّلوك منتشرا بكثرة بين باعة العسل وزيت الزّيتون والفريك الذين يصل الأمر ببعضهم إلى حدّ احتراف الغشّ، فيخلطون العسل بالسكّر، وزيت الزيتون بزيت المائدة، ويصبغون القمح ليبيعوه على أنّه فريك، ويظنّون أنّهم بذلك سيحقّقون وافر الأرباح، ولا يدرون أنّهم يتعرّضون للعنة الله ولعنة ملائكته وعباده، ويعرّضون أنفسهم لعقاب الله في الدّنيا والآخرة.
وما قيل عن تجار الخضر والفواكه والعسل والزّيت والفريك، يقال ما هو أشنع منه في حقّ تجار قطع غيار السيارات الذين مرد كثير منهم على الغشّ والكذب، وأصبحت هذه الأخلاق المشينة لا تنفكّ عنهم في كلّ معاملاتهم؛ فالسّلع التي يبيعون كلّها أصلية ومضمونة، وعبارة “خذها مرتاحا” لا تفارق ألسنتهم (!) مع علمهم بأنّها سلع ليست أصلية، إنّما هي سلع مقلّدة، قد يؤدّي استعمالها إلى حصول أعطاب قاتلة في بعض أنواع المركبات. وكم تسبّبت السلع المغشوشة في حوادث قاتلة، وكم سبّبت من خسائر جسيمة لسائقي المركبات!
لقد غزت هذه السّلوكات المشينة ميدان التّجارة، ولم يعد يتّقيها ويجتنبها سوى قلّة قليلة من التجّار، مع أنّه كان في إمكان التّاجر المسلم الذي يتحرّى الحلال ويخشى الله والدّار الآخرة، أن يكون أمينا مع زبائنه، لا يغشّهم ولا يخفي عنهم شيئا، يميّز بين أنواع السّلعة، ويبيع كلّ نوع بسعر خاصّ، وكلّ زبون يختار ما يناسب قدرته الشّرائية، أو على الأقل يزن التّاجر لزبائنه ممّا تراه أعينهم، ولا يخفي عنهم الرّديء ويظهر الجيّد، ثمّ يزن لهم من الرّديء ويحتفظ بالجيّد للعرض (واجهة السّوق)!
أكثر التجّار الذين ارتضوا هذه السّلوكات، يوقنون في قرارة أنفسهم بأنّهم يقعون في الحرام، لكنّهم يتعلّلون بأنّهم مضطرّون لذلك! مع أنّه لا ضرورة أبدا في استباحة الغشّ والخداع، وأكل أموال النّاس بالحيل، وإذا كان لا يجوز أبدا لمسلم أن يغشّ يهوديا أو نصرانيا، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “من غشّ فليس منّا”، فكيف يجوز لمسلم أن يغشّ إخوانه المسلمين، ويتحايل عليهم لتحقيق وافر الأرباح؟!
إنّ هذا الذي ارتضاه أكثر التّجّار في هذا الزّمان، غشّ محرّم بالإجماع، يمحق الله بسببه بركة تجارتهم، وربّما يعاقبهم بالخسائر المتوالية والمصائب المتتالية، وهذا ما حاق بكثير من هؤلاء التجّار الذين يَصلون اللّيل بالنّهار يجوبون الشّوارع ويقضون الأوقات الطّويلة تحت لفح الشّمس، لكنّ الواحد منهم لا يكاد يدرك الكفاف ويظلّ يشكو حاله إلى النّاس من حوله، ولا يدري أنّ البركة نزعت من تجارته بسبب إصراره على غشّ إخوانه المسلمين.