ما هو الأثر الذي ستتركه خلفك؟ ل- سلطان بركاني
الرأي
ما هو الأثر الذي ستتركه خلفك؟
سلطان بركاني
2024/05/27
((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)): هذه الآية في سورة “يس”، من أكثر الآيات التي تهزّ القلوب، وتحدو كلّ عبد مؤمن بالله موقن بيوم الحساب لأن يقف مع نفسه وقفة مراجعة ومحاسبة: ماذا قدّمت في سنوات عمري من أعمال أتركها أثرا بعد رحيلي من هذه الدّنيا، يتذكّرني بها أهلي وخلاني، ليرفعوا أكفّ الضراعة بالدّعاء أن يتغمّدني الله برحمته، ويؤنس وحشتي ويرحم غربتي؟
موت الفجأة كثر في زماننا هذا، ونحن نرى ونحصي من حولنا الأصدقاء والجيران والأقارب الذين ماتوا فجأة وحضرنا جنازاتهم.. فهل يفكّر الواحد منّا مع تلك المشاهد الكثيرة المتكرّرة أنّه قد يموت فجأة كما مات أولئك الذين أدهشه رحيلهم المفاجئ، وهو الذي لم يستعدّ لرحيل يأتي بغتة، ولم يتب إلى الله توبة نصوحا ولم ينظّم حياته ولم ينجز أعماله المؤجّلة، ولم يغلب نفسه ولم يحافظ على صلاته ولا على ورده من القرآن.. لم يستسمح والديه، ولم يردّ الحقّ إلى أخيه وإلى جاره؛ فضلا عن أن يهتمّ بترك أثر خلفه يُذكر به.
موت الفجأة هو في النهاية انقطاع عن الدّنيا، لكن شتان بين من يموت فجأة على صلاح وخير، وبين من يموت فجأة على غفلة وتقصير.. موت الفجأة كما ورد في الآثار: “هو أخذة غضب للفاجر، وراحة للمؤمن”، فاختر لنفسك -أخي المؤمن- أيّ الطريقين تريد وأيّ الحالين تتمنّى.. تخيّل وحدّث نفسك أنّك تموت فجأة، وتساءل: من سيفتقدني من بعدي ومن سيبكيني؟ سيفتقدني أصدقاء المسجد، أم أصدقاء المقهى، أم أصدقاء الفايسبوك؟ سيفتقدني ويبكيني مصحفي، أم سيفتقدني هاتفي؟ هل تملك مصحفا خاصا بك تقلّب صفحاته كلّ يوم، حتّى أثّرتْ فيه أناملك وأصبح قديما من كثرة تقليب أوراقه، يبكي عليك ويحنّ ويشتاق إليك بعد وفاتك، ويحمله ابنك ويقول: هذا مصحف أبي رحمه الله؟ هل تملك سجادة خاصّة في بيتك تصلي عليها النوافل وقيام الليل، حتّى تركتْ عليها جبهتك وركبتاك أثرا، تبكيك وتشتاق إليك بعد وفاتك، وتخبئها زوجتك لتتذكّرك بها؟ هل هناك أسطوانة في مسجد حيّك تستند إليها ويعرف المصلّون مكانك بها؟ هل تملك مصحفا في المسجد تبحث عنه كلّما دخلت بيت الله، وترجو أن يشهد لك يوم القيامة عند الله؟
يا سعادة من مات وترك خلفه مصحفا وسجادة ومكانا في المسجد. ويا حسرة من ترك مكانا في المقهى وترك صفحة على الفايسبوك ملأها باللغو والعبث وصور النساء ومقاطع الغناء!
موت الفجأة لا يميّز بين صغير وكبير، ولا بين صحيح ومريض، ولا بين غنيّ وفقير، ولا بين رئيس ومرؤوس.. حتى الزعماء والقادة، مهما سخر لهم من الأطباء لمراقبة صحتهم، ومهما سخر لهم من وسائل السلامة، فإنّ الله إذا أراد أن يقبض أحدهم إليه، لم ينفعه شيء.
إنّه من الخير لنا في الدنيا والآخرة أن نكون على استعداد للرحيل عن هذه الدّنيا.. الأجل المكتوم غيرُ المعلوم آية من آيات الله، ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)).. وينبغي أن نحمل همّ ساعة الرّحيل ونجعل الموت نصب أعيننا في كلّ يوم.. كما ينبغي لنا أن ننظّم ونرتّب حياتنا ونسارع في إصلاح ما أفسدناه وفي إنجاز ما أجّلناه.. وينبغي لكلّ واحد منّا أن يجعل له ما يذكّره بالموت في هاتفه وفي بيته وفي واقعه.
في الواقع هناك المستشفيات التي نزورها ونرى فيها أحوال من سُلبوا نعمة الصحة من أصدقائنا وأقاربنا وجيراننا، وهناك المقبرة التي نزورها كلّ أسبوع تقريبا؛ المقبرة التي يفترض أن نخرج منها بقلوب أخرى غير التي ندخل بها، قلوب تستيقظ من غفلتها وتتخذ قرارها بأن تستعدّ للحفرة التي لا ندري لعلّها تحفر بعد أسبوع أو يوم أو ساعة.
ومع المستشفيات والمقابر، هناك هواتفنا التي أخذت بمجامع قلوبنا واستغرقت أوقاتنا، هذه الهواتف ينبغي أن نجعل فيها ما يذكّرنا بالموت والرّحيل عن الدّنيا.. هناك مثلا حساب مؤثّر على التويتر، ينفع إخواننا الشّباب المهووسين بمتابعة حسابات مشاهير الكرة والأكشن، وبناتنا المشغولات بمتابعة حسابات الطبخ والأزياء.. حساب “تغريدات المتوفين” الذي يعرض التغريدات الأخيرة التي كتبها الرّاحلون عن الدّنيا في صفحاتهم.. تجد الشابّ يدعو لغيره بالرّحمة، فإذا به بعد أيام يُدعى له، أو تجده يتكلّم عن الموت، فإذا به بعد أيام يصبح من الموتى.
هذا مثلا متوفى كتب أياما قبل وفاته: “وفاة بعد وفاة وجنازة بعد جنازة: اللهم ان كنت انا القادم، فأحسن خاتمتي واغفر لي وسخر من يدعو لي بعد موتي يا رب”.. شابّ آخر يدعى محمد المهنا، كتب أياما قليلة قبل وفاته يقول: “لست متأكداً من بقائي طويلاً في الدنيا، لكنني أتمنى أن أكون قد غرست داخل الجميع ذكرى طيّبة تبقى للأبد”.. شابّ آخر يدعى سعد الماجدي، كتب أياما قليلة قبل رحيله يقول: “عندما أكون في ظلمة قبري، سخر لي يا الله من يفعل كلّ ما يقدر ليبعث لي قليلا من النور في وحدتي ولا ينساني من دعائي كلّ يوم”.. فتاة تدعى لجين، كتبت أياما قبل انطفاء شمعتها تقول: “في يوم وفاتي: أزيلوا ما في صدوركم علي، واعفوا عن زلاتي، وسامحوني، واذكروني بدعوة، فإن الموت لا يطلب رأي أحد.. ربما يكون يومي قريبا.. اللهم إني أعوذ بك من موت الغفلة.. اللهم لا تأخذني من هذه الدنيا إلا وأنت راض عني.. اللهمّ أحسن خاتمتي إن حان وقت رحيلي.. اللهمّ سخّر لي من يدعو لي بعد وفاتي”.