الإمام الثائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في ذكرى وفاته
الافتتاحية
الإمام الثائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في ذكرى وفاته
المطور أرسل بريدا إلكترونيا2024-05-20
د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين /
إنّ تعدد جوانب العظمة في شخصية العلامة الإبراهيمي تجعل المرء يحتار في أي جانب من جوانبها يتحدث ، وفي أي ناحية من نواحي العبقرية التي تميّز بها يشيد، وحسبي أن أقتصر على ما دل عليه عنوان الندوة المباركة «الإمام الثائر» التي عقدت أشغالها هذا الأسبوع بمدينة «سكيكدة» .فهو إمام ُثائر، ثار على الظلم والظالمين ، والاستعمار والمستعمرين والمعمرين ، وثار على الجهل والتخلف والأمية، وثار على بعض العادات البالية التي كبلت المجتمعات المسلمة، وثار على من استغلّ الدّين لتخدير الناس ونشر الخرافات باسم الإسلام الذي هو منه براء .
فالشيخ الابراهيمي عالم ديني ثائر، ومناضل مستميت ومجاهد عنيد لا يعرف الهوادة ولا المداهنة، وكاتب سخّر قلمه لنصرة الحق وكشف الباطل وأهله وخطيب مصقاع أسمع بكلماته من به صمم، وهزّ النفوس الجامدة بمقالاته، وأقض مضجع المستعمرين. ووصف الشيخ بالثائر يتفق عليه كل من عرف الشيخ معايشة، ومجايلة أو مثاقفة
فقد كتب الشيخ عبدالحميد السائح، رئيس المجلس الفلسطيني –رحمه الله – وهو من الرجال الذين عاصروا الشيخ وعرفوه عن قرب مقالا عنوانه ‘عالم ثائر’، وقد ذكر فيه مكانة ومنزلة الشيخ الابراهيمي العلمية ومساهمته في التحرير.
وسأقتصر على بيان مجالات ثورة الإمام الإبراهيمي في وجه الظلم و المظالم، والجهل والتخلف، فقد واجه ظلم الاستعمار الفرنسي، ورجال الطرقية الذين استغلوا دين الحق لخدمة الاستعمار ومصالحهم،كما واجه الجهل والأمية، والعادات البالية التي حالت دون تحرر، وانعتاق أبناء وطنه بل أبناء ملته جميعا ومنها حرمان المرأة المسلمة من حقها في العلم والمعرفة، وواجه بعض الانحرافات طالت نظام الحكم بُعيد الاستقلال.
معنى الثائر
وقبل التعرض إلى هذه المجالات، يحسن بنا أن نقف عند مدلول كلمة ‘ثائر’ عند الشيخ الابراهيمي، فكلمة: ‘ثائر’ وصف مشتق من الثورة. وهو أيضا ثائر المشتق من الثأر . والعرب يقولون لطالب الثأر وللآخذ به ثائر، مع اختلاف المادتين في أصل المعنى، (مثل: سَالَ وسَأَلَ يلتقيان على الوصف،سائل).وهذا الوصف يصدق على الشيخ الابراهيمي فهو الذي أمضى حياته مناضلا، وثائرا على مظالم الاستعمار التي لا حدود لها.
وهناك اشتراك بين الثأر والثورة؛ لأن الثأر جزاء وانتقام، والثورة سعي لاسترجاع حق مغصوب أو دفاع عن عرض منتهك أو نضال عن وطن مستباح أو حَمِيّةٍ لدين مستباح.(آثار الابراهيمي 5/236).
أولا: مواجهة الاستعمار الفرنسي.
ومجابهة الشيخ الابراهيمي لجرائم الاستعمار الفرنسي الذي جثم طيلة قرن وربع قرن على هذه الأرض لا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وبشاعتها، لكن واجهها بطرق عدة منها:
إفشال المشروع الاستعماري الذي حاول إحلال المسيحية محل الدين الإسلامي واللغة الفرنسية محل اللغة العربية، وجعل الجزائر جزءا من فرنسا، فوقف مع إخوانه في جمعية العلماء سدا منيعا في وجه هذ المشروع الاحلالي من خلال خطة محكمة ومشاريع ميدانية لِتُجَسِد شعار الجمعية: الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا.
ومن صور المواجهة بيانه رحمه الله جرائم الاستعمار و تصوير بشاعتها، بوصف يبعث على التقزز والنفور،وهذا ما كان يرتكبه الجنود الفرنسيون مع الجزائريين من موبقات تقشعر لها الجلود من تقتيل جماعي للأبرياء، واضرام النّار في الكهوف التي يأوي إليها أولئك المساكين حتى يموتوا حرقا واختناقا، هم وأنعامهم ويتفاخرون به،هذا في بداية الاحتلال، أمّا ما فعله العسكريون الفرنسيون أثناء الثورة، فإنّهم أربوا عليهم في ارتكاب الجرائم مع العزل والنساء والأطفال ما لا يخطر على قلب بشر. (الأثار 1/ 254).
وكما أبدع الكواكبي في توصيف ظاهرة الاستبداد وتشريحها وبيان آثارها المدمرة، فعل الشيخ البشير في وصف الاستعمار وتحليل آثاره على الإنسان بكل ما تحويه هذه الكلمة من أبعاد نفسية واجتماعية وحضارية، وسلط قلمه على الاستعمار الفرنسي بعبارات قوية «الاستعمار كالشيطان ملعونا بكل لسان ممجوجا اسمه في كل سمع.. مستنكرا من كل عقل». (5/95)، ويقول في موضع آخر: «الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، ولكن الاستعمار الفرنسي هو المثل الأسفل من أعمال الشياطين» /253
وتتجلى الروح الثورية في العالم الثائر تبنيه العمل المسلح ومباركته الثورة المسلحة في بدايتها، ففي البيان الذي صدر عن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة يوم 15 نوفمبر1954 جاء فيه: ’لم تُبق لكم فرنسا شيئا تخافون عليه أو تدارون لأجله، ولم تبق لكم خيطا من الأمل تتعللون به، أتخافون على أعراضكم؟ وقد أنتهكتها، أم تخافون على الحرمة؟ وقد استباحتها، لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه، أم تخافون على الأرض وخيراتها؟ وقد أصبحتم غرباء حفاة عراة جياعا ….
إنّ فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري إنّما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها….
إنّكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت…’وختم البيان بقوله: أيها الأخوة الأحرار :هلموا إلى الكفاح المسلح……’الآثار 5/33
كما واجه الشيخ الابراهيمي الاستعمار من خلال جولاته في العواصم العربية والإسلامية وعلى المنابر -كان فارس ذلك الميدان-و في المجامع العلمية والثقافية والفكرية، وكذا من خلال أحاديثه في الإذاعات وكتاباته في المجلات والصحف، وذلك لكسب أنصار ومؤيدين للقضية الجزائرية، وكان في كل فرصة تتاح له يعرض القضية الجزائرية ويدعو لمساندتها ويكشف جرائم الاستعمار.
ثانيا: مواجهة رجال الطرقية المنحرفة
التي كانت مطية للمستعمرين في تخدير الشعب الجزائري باسم الدين، وقد وصفه بـ «استعمار روحاني» الذي مَثَّله كثير من مشايخ الطرق «المؤثرون في الشعب، والمتغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضي وطواعية، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد خوفا من الله بزعمه. والاستعماران متعاضدان يؤيد أحدهما الآخر بكل قوته. ومظهرهما معا تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى إلى الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة.»
وقد قام بمعية إخوانه في جمعية العلماء بإزالة ‘هيبتها الباطلة من الصدور ومحو سلطتها الكاذبة من النفوس، ثم كشفنا عن نسبتها المزورة إلى الدين الحنيف، فما تم لنا ذلك حتى انهارت من أساسها، وتلك عاقبة كل بناء بُني على الوهم والتزوير 1/ 407
ثالثا: مواجهة الجهل والأمية:
الجهل من أقوى الأسباب التي مكّنت للاستعمار الذي مارس سياسة التجهيل حتى يسهل عليه التحكم في رقاب النّاس، فحرم الشعب الجزائري من حقة في التعليم، ومنع تدريس اللغة العربية وغرّم المعلمين وأدخل بعضهم السجن وضيّق عليهم، ومارس عليهم جميع أنواع التعسفات، فكان القرار بالتصدي لجميع الأسباب التي يتوسل بها الاستعمار لإعاقة الأمة عن نهضتها واسترجاع حقوقها، وذلك ببناء مدارس حرة بأموال الشعب وتأسيس النوادي ووضع أُسس صحيحة لتعليم النشء، وضع أول قدم في طريق التحرير، فمن وصاياه للمعلمين: «ربوهم على الرجولة وبعد الهمّة وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الانصاف والايثار…وعلى المروءة والوفاء وعلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، وعلى العزّة والكرامة…وعلى حبّ الوطن والدين والعلم والوالدين والمعلم» آثار الامام البشير الابراهيمي.
رابعا: مواجهة عادات بالية
كان الجمود حجر عثرة في وجه تعلم المرأة، فجاءت الجمعية واجتهدت في إخراج المرأة «من سجن الجهل إلى فضاء العلم، فالأمة كالطائر لا تطير إلا بجناحين، وجناحاها هما الرجل والمرأة».
وفي الأرجوزة التي وجهها الشيخ البشير الإبراهيمي لبعض علماء نَـجْد، حثّهم فيها على ضرورة تعليم البنت،جاء فيها :
لا تنس حوّا إنها أخت الذكر
تحمل ما يحمل من خير وشر…
تثمر ما يثمر من حلو ومر
وإنّها إن أهملت كان الخطر….
كان البلا كان الفنا كان الضرر
ومنعها من الكتاب والنظر …
لم تأت فيه آية ولا خبر
وانظر هداك الله ماذا ينتظر …
من أمة قد شلّ نصفها الخدر(5/317)
خامسا: مواجهة الانحراف في نظام الحكم
وشعورا بواجب نصح العلماء لأولي الأمر أصدر الشيخ البشير يوم 16 أفريل 1964 بيانا وجهه إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن ناصحا ومذكرا، بعد أن سلّم مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض بالعربية، ذلك الجهاد الذي عاش من أجله، حاثّا إياهم أن يقيموا هذه الدولة على الأصول التي اتفق عليها المجاهدون في أول نوفمبر وحذر من بناء الأعمال على نظريات غريبة عن الأمّة، وأن تكون منبعثة من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية؛ مع ضرورة التزام مبدأ الشورى، وأن تكون المصلحة العليا هي أساس الاعتبار عندهم، وأن يتعاون أبناء الجزائر جميعا لإقامة العدالة وتحقيق الحرية.
رحم الله العالم الثائر الإبراهيمي على ما قدّم لدينه و وطنه وأمته خير الجزاء