جهاد السيف والقلم اتفاق في الغاية وتنوع في الوسيلة / البصائر
جهاد السيف والقلم اتفاق في الغاية وتنوع في الوسيلة
المطور أرسل بريدا إلكترونيا2024-05-13
د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
إنّ تاريخ الجزائر المعاصر سجل حافل بالبطولات مليء بالمحامد والمكارم، غني بالمعاني والقيم، هي محل فخر واعتزاز، تتوارثها الأجيال، ويتناقلها الخلف عن السلف، وهي تركة الأجداد للأحفاد، ووصايا الآباء للأبناء للمحافظة عليها وصيانتها، واليقظة الدائمة من محاولات تجاهلها أو تناسيها أو إهالة التراب عليها، فهي مصدر إلهام لدوام العز والسّؤدد، وبخاصة في وقت لُبّست دعوات ونظريات لبوس النصح والحرص، واستخدمت وسائل التواصل لنشر الأراجيف وتسويق الأكاذيب وتغطية الحقائق وتضليل الأفهام لتُميت الضمائر وتُفسد الذمم، وتُصغِّر الجلائل، وتُتَفِه العظائم. وتقطع ما أمر الله به أن يوصل فتسلخنا عن جذورنا وأصولنا.
ثورة الوعي
في مثل هذا الشهر من عام 1931م ظهرت للوجود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أحدثت ثورة الوعي في أمّة موات عشَّش فيها الجهل وأنهكها الفقر وخيّمت على عقلها الضلالات وتسللت إلى لسانها الرطانات ولابست دينَها الخرافاتُ وظهرت في أخلاقها الانحرافات، ففقدت بوصلَتَها في الحياة «نأكل القوت ونستنى (ننتظر) الموت».
ارهاصات الثورة المسلحة
وفي مثل هذا الشهر أيضا وقعت أحدات يَندى لها الجبين ويشيب لهولها وفظاعتها الولدان، إنّها مجازر 8 ماي 1945م، التي راح ضحيتها أكثرُ من أربعين ألف شهيد من الشعب الجزائري، في أيام معدودات، وتلك الدماء الطاهرة التي سالت كانت الشرارة التي عجّلت بقيام الثورة المباركة في (أول نوفمبر 1954) ليسترد الشعب بعد جهاد وتضحيات جسام في ملحمة كبرى حريته وكرامته.
فالقمع الوحشي الذي تعرض له الشعب الجزائري جعله أكثر إصرارا على افتكاك حقه وحريته، يقول الابراهيمي: «…إنّ القوم لا يدينون إلاّ بالقوّة، فأطلبها بأسبابها، وائتها من أبوابها وأقوى أسبابها العلم وأوسع أبوابها العمل، فخذها بقوة تعيش حميدا وتموت شهيدا».
جهاد القلم يسبق جهاد السيف
ولأنّ جمعية العلماء جمعية علم ودعوة ورسالة، جعلت من الرسول -صلى الله عليه وسلم – قدوتها وأسوتها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يبدأ جهاده المسلح إلا بعد أن هيأ النفوس وملأها بنور الإيمان واليقين وقد استغرقت هذه المرحلة قرابة ثلاثة عشر سنة وهذا يؤكد الحاجة الماسة للأعداد الروحي والنّفسي والايماني للمعركة الفاصلة التي تستلزم الصبر واليقين ولما انتقل الى المدينة وكثر أنصاره أنشأ دولة وجيشا نادى بالجهاد المسلح.
وهذا المسلك هو الذي اعتمدته حركة الإصلاح في الشرق العربي وكذا ما وقع في الثورات في الغرب؛ لأنّ أيّ مشروع نهضوي أو تحرري استقلالي لا بدّ أن يسبق بحركة بعث فكري يوقظ الشعور ويوضح الأهداف ويرسم الطريق.
لذلك اختارت جمعية العلماء في عهدها الأول الطريق الشاق طريق اعداد الدائم والحركة المستمرة في تعليم الأجيال وتربيته على البذل والصبر والتضحية، وتوعية الأمة وتكوين الإنسان الجزائري وتبصيره بحقوقه في الحرية والكرامة.
لقد أدرك أهل العلم والحِجى أن جهاد القلم هو الذي يمهد لجهاد السيف. لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلخَیلِ تُرهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعلَمُهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَیء فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیكُم وَأَنتُم لَا تُظلَمُونَ﴾ [الأنفال 60]؛ والإعداد تهيئة الشيء للمستقبل، لذلك سبقت القوةُ رباطَ الخيل، والقوة تقتضي اعدادَ جميع الأسباب التي من شأنها أن تحقق الاستعداد للحرب التي لا مندوحة عنها لاسترداد الأرض واحقاق الحق وحفظ الأنفس وتحقيق العدل، وقبل إعداد قوة السلاح ينبغي إعداد من يحمله، وهو الإنسان، فهو الذي يضطلع به.
وهناك فرق بين الجهاد والقتال فلقد ورد الأمر بالجهاد في القرآن المكي حيث لم يكن قتال بل جهاد دعوي بالقرآن قال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ ٱلكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدهُم بِهِۦ جِهَادا كَبِيرا﴾ [الفرقان: 52]، قال ابن عباس رضي الله عنه: «أي بالقرآن»، فصدع الشيخ ابن باديس بما أُمر وجاهد الاحتلال بالقرآن تلاوة وتعليما وتفسيرا وتنزيلا على الواقع ببيان ما في تضاعيفه من أمر ونهي ومخاطبة للعقل والروح وتذكير ودعوة للاعتبار لأحوال الأفراد والأمم وإنّه لعمري لجهاد كبير. فضلا عن منهجيته في تعليم الناشئة في تأهيلهم وتوعيتهم، وقد كان يولد من القواعد النحوية معاني اجتماعية وسلوكية.
فالقسم الأول من الجهاد الذي هو جهاد القلم الذي قام به ابن باديس وإخوانه في جمعية العلماء وغيرهم من أهل العلم من وقت مبكر، تَمَثل في الجهاد الفكري والتربوي والثقافي والعلمي، وذلك بإعداد الفرد والأسرة والمجتمع فكريا وعلميا، واجتماعيا، وهو لا يقل أهمية عن الجهاد السيف؛ ذلك أنّ الحركة الإصلاحية العتيدة تحتاج لتنهض بدورها «إلى ما تحتاج إليه الدول المتقاتلة من جنود لتعمير الميادين التي تقضي طبيعةَ الحرب تعدّدَها» كما يقول الابراهيمي، ومن هذه الميادين :ميدان التعليم لتحرير العقول وتصحيح الفكر وتطهير العقيدة؛ لأنّه إذا صحّ الفكر وطهرت العقيدة فالقليل من العلم يكفي، وميدان الصحافة لتكون لسانها وتساهم في التوعية، وتواجه المشككين والمغرضين، وتزيل الشبهات وتبيّن الحقائق وغير ذلك، ولا بدّ أيضا من وجود دعاة من الشباب المثقف لمعالجة الوهن والجبن في النفوس، وغير ذلك من الميادين، ولتحقيق هذا الغرض عمدت الجمعية إلى إنشاء المدارس الحرة وبناء المساجد وتأسس النوادي والكشافة الإسلامية وبعض الهيآت الفنية والرياضية…، والمستند في ذلك قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، «فمحال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا»،
وهذا ما تجلى في أعمال الشيخ ابن باديس، ففي إحدى زيارته لمدينة قالمة في مارس عام 1938، قدّم محاضرتين الأولى في فسحة السينما للعامة، حثّ فيها سكانها على التآخي والتعاون على الخير والتضامن في كل ما يهم المسلمين ونبذ كل خلاف بينهم، وأن يعلموا حق العلم ألا حزبية بينهم إزاء القضايا الهامة، وبيّن لهم أن الإسلام هو رحمة من الله للناس، وفسر لهم أوائل سورة الفاتحة، ولفت انتباههم إلى أنه بقدر ما في الإسلام من رحمة ورأفة فهو يمقت الظلم والطغيان أشد المقت، ودعاهم إلى المحافظة على القرآن الكريم ولسانه العربي المبين تعلما تعليما.
وفي المحاضرة الثانية، خصّ بها الشباب، ورغّبهم في طلب العلم النافع بأي لغة كانت ومن أي وعاء صدر، لكن بشرط «أن تطبعوه بطابعنا لتنتفع به الأمة» وانتقد أشد الانتقاد الشباب المتأثرين بطابع الغير، ذلك أنّ قيمة المرء بقيمة قومه.
وفي الدار جمعية العلماء تغذي العقول بوحي السماء
وتهدي النفوس الصراط السّوي وتغرس فيها معاني الإباء
وترسي جذور الأصالة في الشعب تمحو بها وصمة الدخلاء
كذا عبّد العلماء الثنايا بوحي السماء ووحي الدماء
مرافقة القلم للسيف
إنّ جهاد القلم يسبق جهاد السيف ويرافقه بل ويستمر بعده، لأنه هو الضامن للمحافظة على المكتسبات والمنجزات ويقوم بتنميتها وترقيتها، والثورة لا تعني فقط حمل السلاح واطلاق الرصاص، فالتوعية والاعداد وتأمين الغذاء والتخطيط وتحريك الديبلوماسية السياسية والاتصال بالدول الشقيقة والصديقة لتأمين المساعدات والتعريف بالثورة وما يتعرض له الشعب الجزائري من إبادة على يد المحتلين، وتدويل الأزمة الجزائرية وعرضها في المحافل الدولية وأنها ليست شأنا فرنسيا داخليا كما تدعي، ومرافقة كل ذلك إعلاميا وغير ذلك فكل هذه الأعمال لا غنى عنها لنجاح أي ثورة.
وهذا ما تجلى في ثورتنا إذ قام أهل العلم وهم محل الثقة بتحريض الشعب على الجهاد ومقاومة الاستعمار وإصدار فتاوى دينية تحضّ على مجابهة المحتل وتُرغب في الاستشهاد، فكل تلك الجهود المباركة غطت جانبا من الملحمة الكبرى، التي تحقق فيها وعد الله بنصر عباده المؤمنين واندحر الاستعمار إلى غير رجعة إن شاء الله.
أحداث غزة تروي مأساة 8 ماي 1945
لئن غابت المشاهد بالصوت والصورة عن المجازر التي أرتكبها الاستعمار في حق آبائنا وأجدادنا وقرابتنا وجيراننا وفي شعبنا، وما قامت به فيالقهم وكتائبهم في هدم القرى على أصحابها وقصف طيرانهم وقتل المتظاهرين السلميين، وتعذيب المعتقلين وتنفيذ أحكام الإعدام في حق الجزائريين ممن طالبوا بحقهم في الحرية، في تلك الفترة لم تكن الأمور كما هي عليه الآن من التطور التكنلوجي فإننا نرى اليوم رأي العين ما يقوم به الكيان الصهيوني من وحشية في حق الشعب الفلسطيني، ومع ذلك يريد هذا الكيان الغاصب أن يحجب الحقيقة بقتل الصحافيين ومنع القنوات الإعلامية من تغطية الأحداث.
فما أشبه اليوم بالبارحة، إنها مدرسة الاجرام لا تختلف بين زمان وزمان.
اللهم فرج كربة إخواننا وكن لهم سندا وعونا وانصرهم على الظلمة المجرمين وأنزل بأسك عليهم فإنهم لا يعجزونك.