سوف يُسجِّل المؤرِّخون، والمحلِّلون، وفقهاء الدِّين، والرَّاسخون في علم السياسة، وخبراء الفنون العسكرية، والإستراتيجيون؛ سوف يسجِّلون جميعا لغزَّة العزَّة الفلسطينية، إبداعاً صنعته، واختراعاً وضعته، مُمثَّلاً في قاموس ثقافة التغيير، كمنهج لنجاح معركة التحرير، فقد نجحت غزَّة العزَّة من خلال منهج المقاومة بقيادة “كتائب القسَّام”، نجحت في إيجاد مجتمع فلسطيني جديد في سُحنته وشُحنته، جعلته يخرج على العالم بقامات عالية، وأرواح سامية.
بالرغم من همجيَّة التَّدمير، وجريمة التَّهجير، وبشاعة القتل، والأسر، والتجويع، والتعسير، لم يعد الطفل الغزَّاوي طفلاً، بل أصبح كبيراً يُلقي على العالم أبلغ الدروس في فنِّ الصحوة والثبات والعزم لحسم معركة المصير.
والتحم في معركة غزَّة العزَّة الشباب والكهول والشيوخ والنساء، فهم يسيرون جميعاً على خطوة واحدة، هي خطوة الفداء والتضحية، وحماية المقاومة، وصيانة المعالم الوطنية والمقدسية.
ولعل َّأبرز ظاهرة ثورية هزَّت العالم، وأسالت الحبر والدموع، هي منظر أبناء غزَّة الفلسطينية وهم يتدثَّرون بالكفن، الذي هو رَمزٌ للموت، كإعدادٍ واستعداد، فإذا كان استشهاداً؛ فهو الموت الأعلى والأمثل والأنبل.
إنَّ التدثُّر بالكفن بين الأحياء، هو رسالة فصيحةٌ وصريحةٌ للأعداء والأشقَّاء معاً، إنَّه تجسيدٌ لمعنى الإعداد والاستعداد للاستشهاد.
وكم هي عديدةٌ الرسائل التي أرسلتها غزَّة إلى العالم، فأيقظت الضمائر وفتحت البصائر، وحشدت الجموع الغفيرة من الأحرار والحرائر.
ومن رسائل غزَّة للجميع؛ إسقاطُ الأقنعة، وتمزيقُ الحُجُبِ عن وجوه ظلَّت تتوارى عن الأنظار، تحت أسماء عديدة، ولا تجد لها ناصراً، ولا تتَّخذ لها عذراً وتبريراً.
وإذا كانت الصهيونية البغيضة تخوض حرب إبادة من أجل استعادة بعض العشرات من الرهائن، وتجد لها من يساندها من القوى العالمية المجحفة، فكيف هو حال من يخوض معركةً لمساندة آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يُسامون الخَسْفَ والتَّنكيل، وكلّ جرائم الإذلال، عكس ما يحظى به الرهائن من طرف المقاومة الفلسطينية من حُسنِ المعاملة، بشهادة الأعداء المحرَّرين أنفسهم؟
ساعة النصر قد أزفت، تلك هي القاعدة التي آمن بها العدوُّ قبل الصديق، ومن كان في شكٍّ من ذلك فليلتفت حوله نحو العالم، وليمدَّ بصرَهُ إلى محيط العدوِّ الصهيوني؛ حيث المظاهرات، والاعتصامات، حيثُ لطمُ الخدود، وشقُّ الجيوب {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قُرى محصَّنة أو من وراء جُدُرٍ بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى ذلك بأنَّهم قوم لا يعقلون}.[الحشر 14].
إنَّ هذه المعركة التحريرية التي تخوضها المقاومة الفلسطينية، هي أمانة في عنق كلِّ ضمير إنساني حرٍّ، وهي وديعة التاريخ في ذمَّة كلِّ عربيٍّ وكلِّ مسلمٍ، وهي محنة امتحن الله بها قادةَ الأمَّة العربية والإسلامية وشعوبَها، ويساندها في كلِّ هذا الحقُّ والتاريخ والإنسانية، فهل نحن في مستوى هذه التحدِّيات؟
لقد ضربت كلُّ فئات المجتمع الفلسطيني من خلال غزَّة العزَّة أروع المـثل، وأنبل القيم، فأفرزت لنا هذه المقاومة نماذج من القيادة الرائدة، التي لا تكذب أهلها. إنَّهم فِتيةٌ آمنوا بربِّهم، طلَّقوا الدنيا، فاشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة.
وشتَّان بين من يُجاهد بالسِّنان، وبين من يدَّعي الجهاد بالسُنَّة، وشتَّان بين من يبيتُ حارساً في سبيل الله، وبين من يبيتُ على سريرٍ وثير، شتَّان بين من يتدثَّر بالكفن، وبين من يتزيَّن بالحرير.
إنَّ هذه الدروس الغزَّاويَّة الفلسطينية التي تنبُعُ من كلِّ جهات فلسطين، تأتينا مبلَّلة بالدِّماء، والدموع؛ الدماء الزكيَّة، والدموع النديَّة، لتبعث فينا النَّخوة والاعتزاز بالانتماء، وتدقَّ ناقوس الخطر في وعينا؛ أن حيَّ على الجهاد الذي اكتملت كلُّ مقوِّمات النَّصر فيه، ولا ينقصه إلا الدَّعم الماديّ الضامن لمواصلة الجهد، والشدُّ على الأيادي بالزَّاد والعتاد من أجل تقريب النَّصر، {وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ الله وعدوَّكم}.[الأنفال:60].
إنَّ ساعة النصر قد أزفت، تلك هي القاعدة التي آمن بها العدوُّ قبل الصديق، ومن كان في شكٍّ من ذلك فليلتفت حوله نحو العالم، وليمدَّ بصرَهُ إلى محيط العدوِّ الصهيوني؛ حيث المظاهرات، والاعتصامات، حيثُ لطمُ الخدود، وشقُّ الجيوب {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قُرى محصَّنة أو من وراء جُدُرٍ بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى ذلك بأنَّهم قوم لا يعقلون}.[الحشر 14].
ولا عبرة بما يثار من أصداء وغوغاء حول المفاوضات، والتنازلات، والمبادلات، والحقيقة كلُّها عند الثوَّار، عند “كتائب القسَّام”، و”سرايا القدس”، وكلّ المقاومين.
يا أيُّها الثوَّار…
في القدس، في الخليل، في بيسان، في الأغوار
في بيت لحم، حيث كنتم أيُّها الأحرار
تقدَّموا، تقدَّموا…
فقصَّة السَّلام مسرحيةٌ، والعدل مسرحيةٌ
إلى فلسطين طريق واحد، يمرُّ من فوهة بندقية.
(نزار قباني)
ولقد استوعب الدَّرس مجاهدو المقاومة بزعامة “حماس”، هؤلاء القادة الذين بهروا العالم بحكمتهم وشجاعتهم، وتجلُّدهم وبلائهم، فقدَّموا أروع الأمثلة عن حسن القيادة، ونبل الريادة، والتجلُّد في البلاء والشهادة.
ولهم في ثورة الجزائر المثل الأعلى، فما تعيشه غزَّة اليوم من تدمير، وتكسير، ومن تقتيل وتهجير، عاشه الشعب الجزائري طيلة مئة واثنين وثلاثين سنة، كانت كلُّها نارا ونورا، انتهت بهزيمة الغُزاة وانتصار الأُباة.
إنَّ ممَّا يسمو بنا نحن الجزائريين أنَّنا استثناء –بالنسبة لمؤازرة فلسطين- في باقي أجزاء العالم، فمنذ استقلالنا، كنَّا نعتبر استقلالنا ناقصاً، طالما فلسطين ترزح تحت قيود الصهاينة المحتلِّين.
فيا أيُّها المدَّثِّرون بالكفن، ويا أيُّها الملثَّمون بالكوفية، لا يهمُّ من تكونون، ولكن الأهمَّ أن تكونوا رُموز نَار ونُورٍ كما عهدناكم {فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.[آل عمران: 139].
النَّصر قد لاحت علاماته، وغداً سنتدثَّر جميعاً بالعلم الفلسطيني، رمزَ نصرٍ وحريةٍ واستقلال، {ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصرِ الله ينصرُ من يشاء وهو العزيز الرحيم}.[الروم:4-5].
الرأي
يا أيُّها المدّثر.. بالكفن
عبد الرزاق قسوم
2024/05/15
تقييم:
1
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.