روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أول هذا الأمر نبوّة ورحمة، ثمّ يكون خلافة ورحمة، ثمّ يكون مُلكًا ورحمة، ثمّ يكون إمارة ورحمة، ثمّ يتكادمون عليه تكادم الحمر؛ فعليكم بالجهاد، وإنّ أفضل جهادكم الرّباط، وإنّ أفضل رباطكم عسقلان”.. هذا الحديث مع كونه من دلائل النبوة وأمارات صدق النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-، فهو يتضمّن وصية غالية تُجلّي طريق النّجاة في زمن الفتن والاختلاف.
الحديث يشير بوضوح إلى أنّ أجلى علامة على طريق الحقّ في زمن التنافس في الدّنيا والتكادم على الملك، هي لزوم الجهاد والرباط.. ولأنّ الجهاد قد تشوبه الشوائب في بعض ساحاته، خصّ النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- رباطا يكون نقيا من كلّ الشوائب في آخر الزّمان، لا يختلف العلماء الصّادقون والصالحون المصلحون في أنّه جهاد في سبيل الله يجب أن تبذل كلّ الوسائل لدعمه إن لم يُمْكن الانضواء تحت رايته.
أرض عسقلان، هي جزء من أرض فلسطين الغالية، وتاج أرض الشام المباركة، قال عنها عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: “لكل شيء ذروة، وذروة الشام عسقلان”.. تقع على بعد 21 كم شمال قطاع غزّة، فتحها المسلمون سنة 23 هـ/ 644م بقيادة عمرو بن العاص. سقطت بأيدي الصليبيين سنة 1153م/ 548هـ، وحررها النّاصر صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م/ 583هـ، ثمّ عاد الصليبيون واحتلوها مرة أخرى سنة 1192م/ 588هـ.. وظلّت تراوح بين سيطرة المسلمين واحتلال الصليبيين، حتى احتلتها بريطانيا سنة 1917م، قبل أن تقع في أيدي الاحتلال الصهيوني سنة 1948م، فاضطر سكانها للهجرة إلى قطاع غزّة، وأمست غزّة الموطن البديل لسكان عسقلان المباركة، ومنها أخذت راية الجهاد والرباط.
غزّة الآن هي أرض الجهاد النقي، وأرض الرباط الموعودة، وهي حائط الصدّ الأقوى في وجه المشروع الصهيو-صليبي، وبوصلة الأمّة في مواقفها ومشاعرها، فالدّول والشعوب والطّوائف توزن بموقفها من غزّة، وكلّ دولة تسعى في إسقاط راية الرباط والجهاد في غزّة، هي دولة بغي وعدوان، وكلّ طائفة تطعن في راية غزّة ومرابطيها هي طائفة منحرفة.. وحتى مشاعر المسلمين يجب أن تضبط بمشاعر أهل غزّة؛ فكلّ ما يُفرح أهلَ الرباط ينبغي أن يُفرح المسلمين جميعا، وكلّ ما يحزن سكان القطاع المحاصر ينبغي أن يحزن المسلمين جميعا.
في الأيام الماضية، قامت إحدى الدول المسلمة، بعمل عسكريّ محدود ضدّ الكيان الصهيونيّ، ردا على استهداف قنصليتها في بلد مسلم آخر، فتباينت مواقف المسلمين، بين من أيّد العمل وباركه باعتبار أنّه يأتي في وقت صمت فيه العالم أجمع أمام حرب الإبادة التي يشنّها الصهاينة على قطاع غزّة، وبين من رأى فيه عملا استعراضيا لا ينكأ عدوا ولا ينصر مظلوما، وذهب بعض من تبنوا هذا الموقف بعيدا إلى حد القول إنّ العملية العسكرية تصبّ في صالح الكيان المجرم، لأنّها تغطّي على جرائمه وتحوّله من مجرم إلى ضحية!
والحقّ أنّ منطق الشّرع والعقل والحكمة يملي علينا أن نفرح بكلّ عمل من شأنه أن يربك الاحتلال الصهيونيّ ويشغله بمعارك أخرى، ويخفّف من حدّة إجرامه ضدّ إخواننا في غزّة، ولو قامت بهذا العمل دولة غير مسلمة.. وقد ذكر القرآن الكريم أنّ المسلمين الأولين فرحوا بانتصار الرّوم على الفرس، لا لشيء إلا لأنّ الفرس أهل وثنية والروم أهل كتاب، مع أنّ الفرس يومها لم يحاربوا المسلمين، قال تعالى: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الروم :1 -5).
وهكذا يُشرع للمسلم أن يفرح بكلّ معركة يرى فيها ميلا لموازين القوى لصالح أمّته، ولو كان أطراف المعركة يضمرون له العداء.. ونحن لو عدنا إلى بوصلتنا، فإنّنا نجد أهل غزّة قد فرحوا بالعملية الأخيرة، لأنّها -بغضّ النّظر عن أهدافها- قد أزعجت الكيان المجرم الذي قتل أهليهم وسوّى بالأرض بيوتهم ومساجدهم، وأظهره على حقيقته التي كشفها القرآن، بأنّه جبان لا يقاتل إلا من خلف الحصون ولا يتقوى إلا بالحبال التي يمدّها إليه حلفاؤه: ((ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون)) (آل عمران: 112).
الأمّة المسلمة، الآن، في مواجهةٍ شديدة وحاسمة مع كيان صهيونيّ بغيض يحتلّ الأرض المقدّسة المباركة، وهو الأشدّ عداوة للذين آمنوا والأكثر إجراما في حقّهم بين أمم الأرض كلّها.. ومن واجب الأمّة أن تجعل هذا العدوّ على رأس قائمة أعدائها، وتفرح بكلّ ما يصيبه، ولو كان من دولة أخرى أقلّ عداوة للمسلمين وأقلّ إجراما من دولة الاحتلال الصهيونيّ.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.