يا أرض فلسطين.. علّمينا اليقين
الرأي
يا أرض فلسطين.. علّمينا اليقين
سلطان بركاني
2023/12/16
ليست غزّة وحدها هي التي تبتلى وتمتحن؛ الأمّة كلّها تمرّ بامتحان عسير، نتائجه تحدّثت عنها أم من قطاع العزّة فقالت: “لماذا كل العالم يتفرج علينا؟! نحن لسنا فرجة. نحن أشرف شعب في العالم. أقل طفل فلسطيني شأنا هو أفضل من أكثر حاكم عربي صيتا. لا نريد لأحد أن يصورنا.. كل العالم مع اليهود، لكن يكفينا أنّ الله معنا. كل الأبواب فتحت لبني صهيون وأغلقت في وجوهنا، لكن عزاءنا أنّ باب الله مفتوح لنا.. النصر لنا، ولا نريد لأحد أن يعطف علينا. نحن معنا الله الذي يقول: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ))”.
أهل غزّة نجحوا في الامتحان، وخير دليل هو هذا اليقين الذي انطوت عليه قلوبهم، ونراه ماثلا في مواقفهم وكلماتهم وجَلدهم وثباتهم.. أصبحنا نسمع كلماتهم فنبكي أسى لمصابهم، ومعه نبكي حسرة لحالنا.. نقف مشدوهين: أيّ يقين بالله يحمله إخواننا المسلمون هؤلاء؟ وأيّ ثقة بالله تنطوي عليها قلوب الرجال والنّساء والشيوخ والأطفال في قطاع العزّة؟
لقد ربّتهم الشدّة، ونحَت قلوبَهم الحصار المضروب عليهم منذ العام 2006م؛ فطلّقوا عن حياة التّرف والكماليات، وتخلّوا عن التنافس في الدّنيا، وأخرجوا التعلق بالمظاهر الفانية من قلوبهم، وعمروها بمحبّة الله ورسوله ودينه. وانطلقوا إلى بيوت الله يتنافسون في حفظ القرآن رجالا ونساء وشيوخا وعجائز وأطفالا.
خذلهم النّاس، فوطّنوا قلوبهم على التعلّق بربّ الناس.. علّقوا قلوبهم بالله وكلّهم يقين بأنّ مولاهم لن يخيّب ظنّهم به.. هم يعلمون أنّهم في أرض الأنبياء، وأنّهم اصطفوا ليكونوا في أرض الشام التي تبتلى وتمحّص في آخر الزّمان، لذلك استعدّوا لكلّ أنواع البلاء، وصار الواحد منهم يفقد أعزّ أعزّائه؛ ابنه أو بنته، أو أباه أو أمّه أو زوجته، وربّما يفقد أسرته كاملة، فيسجد على الأرض ثمّ يرفع يديه إلى السّماء ويقول: “الحمد لك يا ربّ. اللهمّ خذ منّي حتّى ترضى”. عنوان حياتهم: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)).. هذه الآية التي نسمعها في الجمعات وتمرّ على آذاننا كما تمرّ غيرها من آيات القرآن؛ يحفظها إخواننا في غزّة، كما نحفظ نحن الفاتحة، ويردّدها صغيرهم قبل كبيرهم.
إذا كنّا نحن المخلّفين نريد أن نعيش الجنّة في الدّنيا ولا نريد أن نشاك في هذه الدّنيا بشوكة، ونتمنّى على الأماني لنجد جنّة أكمل وأتمّ وأدوم في الآخرة، وهذا محال، فإنّهم في غزّة تعلّموا أنّ هذه الدّنيا دار بلاء وعناء، فهيؤوا أنفسهم لذلك، وأصبحوا يتقربون إلى الله بحسن الظنّ به أنّه ما يبتليهم إلا ليهيئهم لأمر عظيم في الدّنيا، ولكرامة عظيمة في الآخرة.. حينما تسمعهم يتكلّمون وهم للتو قد خرجوا من تحت الأنقاض ونجوا من الموت وفقدوا الأحبّة، تحسّ بأنّهم يحملون يقينا بالله لو وزع على أهل الأرض لوسعهم.
إنّ أعظم ما نفتقده نحن في حياتنا المضطربة هو اليقين بالله، ووالله لو كنّا نحمل اليقين بالله في قلوبنا لرأينا العجائب في حياتنا. يقول الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: “ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين”، ويقول: “لون أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي، لطارت القلوب اشتياقاً إلى الجنة وخوفا من النار”.
إنّه -والله- ما تعسّرت حياة كثير منّا، ولا غلبتنا نفوسنا وتسلّطت علينا شياطين الإنس والجنّ إلا بسبب ضعف اليقين بالله.. وبسبب ضعف اليقين في قلوبنا آثرنا الدّنيا على الآخرة، والعاجلة على الآجلة، وصرنا نخاف من الاستقامة على دين الله أن تفوّت علينا حظوظنا من الدّنيا.. الرجل يخاف إن هو حافظ على صلاته أن يطرد من عمله أو تنقص أرباح تجارته.. المرأة تخاف إن هي لبست الحجاب الواسع ألا تتزوج وأن تحرم من العمل.. ومن يطلب سكنا يظنّ بأنه إن لم يعط الرشوة فلن يحصل على مراده. ومن يطلب عملا أو وظيفة يظنّ بأنّه لن ينجح في مسابقة التوظيف إلا إذا دفع مالا تحت الطّاولة لسي فلان…