لن تقهروا إرادة الفلسطينيين في الحياة
الرأي
لن تقهروا إرادة الفلسطينيين في الحياة
عبد الحميد عثماني
2023/12/03
واضح من الاستئناف الهمجي للعدوان الحربي على غزة، أن الكيان الصهيوني يتجرّع مرارة الهزيمة الأخلاقية والسياسية هذه الأيام، إذ تتخبط قياداته الإجرامية بين تبعات الفشل العسكري الميداني في القضاء على المقاومة الباسلة، مثلما توعّدوها منذ عملية “طوفان الأقصى” المباركة، وضغط داخلي ودولي بسبب إدارة الحرب عشوائيّا، من دون نتائج عمليّة، سوى قتل مزيد من المدنيين الأبرياء وتشويه صورة “إسرائيل” الاحتلالية أمام الرأي العام العالمي.
إنّ هذه الوحشية غير المسبوقة التي يمارسها الكيان الصهيوني بتجاوز كل الأجهزة الأممية والهيئات القضائية والقوانين الإنسانية والأعراف لا تعكس قوة “الدولة” الاستيطانية، بل تثبت مدى الارتباك النفسي بشأن مستقبلها الوجودي، إذ أخلطت غزوة السابع من أكتوبر كل الحسابات في جدوى الحصار على القطاع طيلة 17 عامًا.
كانت “إسرائيل” تخطّط، بدعم أمريكي وتواطؤ عربي إقليمي، لتصفية القضية الفلسطينية قريبًا، عن طريق التهجير القسري وتوسيع الاستيطان وتعميم ما يسمّى “اتفاقات أبراهام” التطبيعيّة، بمرافقة المشروع الصهيوني لـ”الديانة الإبراهيمية” المزعومة، ضمن إستراتيجية خبيثة تستهدف غسل العقل المسلم للأجيال الجديدة، من حالة الصراع العقدي الحضاري الاستعماري مع الصهيونية العالمية، إلى تخديرها بشعارات السلام والتعايش الإنساني.
غير أنّ مبادرة المقاومة الفلسطينية استبقت أحلام “إسرائيل” والمطبعين العرب بإعادة بعث القضية مجدّدا إلى واجهة الحدث القومي والدولي والإنساني، لتفضح الخذلان العربي الرسمي والغربي وتكشف وظيفيّة كل مؤسسات السلام والأمن الدوليين التي تم بناؤها لأجل تكريس النفوذ المطلق للإمبريالية الاستعمارية بكافة أشكالها المعاصرة.
مهما كانت الفاتورة مؤلمة جدا وقاسيّة على الفلسطينيين، فهي الخيار الوحيد المتاح أمامهم، في ظل التخلّي العربي، إذ يمكنهم كبح المشروع الصهيوني وخلط أوراقه في الوقت الحالي، على الأقل، قبل تهيئة كل الظروف الموضوعية للتحرير الوطني.
عمليات المقاومة المستمرة في غزة منذ سنوات، وخاصة مبادرتها الأخيرة، تذكّر الجزائريين على وجه الخصوص بأحداث 08 ماي 1945 التي فتحت بصيرة قيادات الحركة الوطنية بكل مشاربها على وهم التفاوض والسياسة والانتخابات في كنف الاستعمار الفرنسي، حيث أيقن الاستقلاليون والإصلاحيون والمتردّدون والمؤمنون بالاندماج على السواء، أن ما سلبه الاحتلال بالقوة يستحيل استرجاعه منه إلا بالقوة، فشكّلت تلك الأحداث المأساوية، والتي فقدنا خلالها 45 ألف شهيد مدني في بضعة أيام، المنعرج الحاسم لطيّ عهد الاستجداء الحقوقي نحو التجنيد الوطني والتحضير للثورة المسلحة الشاملة، بإمكانات بدائية وشبه معدومة في البدايات الأولى، قبل الالتفاف الواسع شعبيّا وعربيّا حول الثوار الجزائريين.
وليس بعيدًا منها، ما فكّر به البطل زيغود يوسف وإخوانه في 20 أوت 1955، حين قررت قيادة الثورة فكّ الحصار المفروض على مهدها بمنطقة الأوراس ودفْع باقي فئات الشعب للانخراط فيها، فنفذت هجمات عبر 26 مدينة وقرية بالشمال القسنطيني، مسفرة عن سقوط قرابة 13 ألف شهيد في يوم واحد، لكنَّها أفضت إلى تحرير الثورة من الخناق الاستعماري وتعميمها وطنيًّا، بل النجاح في تدويل القضية الجزائرية بترويج صور الجرائم الفرنسية الصادمة في حق المدنيين العزّل.
في مثل هذه السيناريوهات الكبرى، لا تحسب النتائج بأرقام الضحايا بالنسبة لأصحاب القضية العادلة، بل بالمكاسب الإستراتيجية في تثبيت الحق وإحيائه وجدانيا وسياسيا وقانونيا وإعلاميا، ضد محاولات الطمس الاستعماري والتصفية الوجوديّة، خاصة في ظل حالة الانقسام الداخلي وتشتُّت القوى الوطنية وترهّل النظام العربي الإقليمي، بل انخراط جزء كبير منه في مخطط العدوّ لحسابات متعدّدة، ناهيك عن التحيّز العالمي لمراكز القوى العظمى.
لذلك، فإنَّ غطرسة جيش الاحتلال في الردّ الوحشي المتوقّع، لن تقهر إرادة الحياة والحرية وتشبّث الفلسطينيين بالوجود فوق الأرض، مهما قتل من الأرواح وهدم من البيوت وهجّر من الأهالي، طالما ظلّ عاجزا عن استئصال المقاومة، ولن يفلح في هذا الهدف، لأنّ هذه الأخيرة من صلب الحاضنة الشعبيّة وبإبداع ذاتي ولا ترتبط بفصيل محدّد، بل هي روح تسري في عروق الأحرار ودمائهم يتوارثونها ابنًا عن أب حتى يتحرر الوطن، ومن سقط دون ذلك، فهو حيّ عند ربه من الشهداء الخالدين.
من يتابع الجدل الصهيوني الداخلي، سيدرك أن دولة الاحتلال في أضعف أيامها وأشدّها إرباكًا وقلقًا حول المستقبل المجهول، فلا تستكثروا يا أهل الكرامة والأحرار أرقام الشهداء والمصابين ولا تخيفكم الجرائم المهولة حتى لو أدمت قلوبكم، فليست العنجهية العسكريّة سوى محاولة يائسة لرفع المعنويات الصهيونية المحبطة وجمع الرأي العام الإسرائيلي المنقسم على نفسه تجاه التحدّيات البنيويّة التي تهزّه من الداخل خلال العقود الأخيرة.