بايدن الصهيوني وبلينكن اليهودي.. ما هي الخلفية؟ أ. د. فريد حاجي
بايدن الصهيوني وبلينكن اليهودي.. ما هي الخلفية؟
أ. د. فريد حاجي
2023/12/04
يرى المفكّر الشّهير عبد الوهاب المسيري – رحمه الله – أنّ الصهيونيّة “… ظاهرة غربيّة استعماريّة استيطانيّة إحلاليّة” و”الولايات المتحدة هي الرّاعي الإمبريالي للدولة الصهيونيّة الوظيفيّة، تدعمها وتموّلها وتضمن بقاءها واستمرارها”. بهذا المعنى، فإنّ دور هذا الكيان، يتعلّق بتحقيق مصلحة مادّية وجيو/ سياسيّة لأمريكا في قلب الوطن العربي، وهما وراء دفاعها المستميت عنه.
لكن، خليق بنا التذكير بنَتْفٍ من نشأة أمريكا، وتحديدا الأساس الذي بُنيت عليه.
أوّلا: عندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا، حمل المهاجرون الجُدد، معهم العقيدة البروتستانتية البيوريتانيّة و/أو التطهيريّة. كان هؤلاء يحدوهم أمل في إمكانيّة العيش وفقاً لهذه العقيدة في انجلترا، لكن تمّت مطاردتهم، فانتقلوا إلى الأرض الجديدة المسمّاة “العالم الجديد”. كان في مخيالهم أنّهم النُّخبة التي اختارها الرب لإقامة مملكته (مملكة الرب) على الأرض التي اختارها لهم، وهي أرض الميعاد (أمريكا).
من أهمّ الطوائف التي هاجرت من إنجلترا إلى العالم الجديد، هم المطهّرون “Puritans” والكويكرز Quakers؛ نزل بعضهم في “لايد” (Leyde) بهولندا في البداية، ومنهم القسّ “جون روبنسون” (1576-1626م) وبعض من أتباعه، كما نزلت مجموعة صغيرة عُرفت باسم “الحُجَّاج” في “بليموث” (Plymouth) جنوب انجلترا أواخر العام 1620م. وقد خاطب زعيم الطهوريّين الكاهن”جون كوتون” (1548-1652م) المستوطنين قائلا: “…كان اختيار موقع المستوطنة الأولى هو أوّل بركة من الله…”.
اعتقد هؤلاء المهاجرون، أنّهم الشّعبُ المختار، وأنّ أمريكا هي الأرض المختارة (كنعان الجديدة) مثلما خرج “الإسرائيليون” الأوائل من ديارهم وأنشقّ بهم البحر وهم فارّون من ظلم “فرعون” وأتباعه المصريّين، أنّهم قادمون إلى العالم الجديد لإقامة “صهيون الجديدة” كما قدِم “الإسرائيليون” إلى أرض كنعان لإقامة صهيون فيها. وقد قال “مايكل كوربت” في كتابه “الدين والسياسة في الولايات المتحدة”: “…إنّ البيوريتانيّين نظروا إلى أنفسهم على أنّهم الشّعب المختار الجديد، وأنّ العالم الجديد هو “إسرائيل” الجديدة.
ثانيّا: قد يتبادر إلى الذّهن أنّ المهاجرين الأوائل قد وظّفوا الدّين لتحقيق مطامع اقتصادية فقط (على غرار الحروب الصليبية) وهي – الفكرة الشائعة- بعد التّمكين لما سمّوه “كنعان الجديدة”. وإذا كان الأمر كذلك، فَبماذا نفسّر خطابات ومواقف رؤساء الولايات المتّحدة ذات الحمولة الدينيّة الواضحة والصريحة إلى اليوم؟ فعلى سبيل المثال:
– جورج واشنطن” (1732-1799م) جعل من يوم 26 نوفمبر من كلّ عام “عيدا قوميّا” (لعيد الشّكر).
– ليندون جونسون” (1908-1973م) أمام منظّمة يهوديّة/ أمريكيّة قال: “… لأكثركم، إن لم يكن لكم جميعا، رواﺑﻂ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻣﻊ أرض وشعب إﺳـﺮاﺋﻴﻞ كما هو الأﻣـﺮ ﺑﺎﻟﻨـﺴﺒﺔ إﻟـﻲّ… إنّ القصص التوراتيّة محبوكة ﻣـﻊ ذﻛﺮﻳـﺎت طفولتي، كما أنّ الكفاح الشّجاع الذي قام به اليهود المعاصرون من أجل التحرّر من الإبادة منغمس في نفوسنا”.
– رونالد ريغان (1911-2004) في سياق تمكّن التحالف الأمريكي/ الإسرائيلي من إخراج القوّات الفلسطينية من لبنان العام 1982، قال: “… إنّه مفخرة لأمريكا لأنّنا معنيّون بالسّلام في الشرق الأوسط، ليس كخيار إنّما كالتزام معنويّ دينيّ”. وقال في أوت 1984م: “… إنّ الدّين يؤدّي دورا حاسما في أمّتِنا”.
– جيمي كارتر (1924-) قال: “… إنّ دوﻟﺔ إﺳﺮاﺋﻴﻞ هي اﻟﻌـﻮدة إﻟـﻰ أرض اﻟﺘّﻮراة اﻟﺘﻲ أُﺧﺮج ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻴﻬﻮد منذ ﻣﺌﺎت اﻟﺴﻨﻴﻦ، وإنّ إﻗﺎﻣﺔ الأمّة الإﺳﺮاﺋﻴﻠﻴﺔ ﻓﻲ أرﺿﻬﺎ ﻫﻮ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻟﻨﺒوءة ﺗﻮراﺗﻴﺔ”.
– جورج بوش الأب (1924-2018م) جعل من يوم 3 فبراير عيدا قوميّا للصلاة.
– بوش الابن (1946-…) قال أثناء حربه على العراق “إنّها حرب صليبيّة.” وقيل إنّها “زلّة لسان “.
– جو بايدن (1942-…) قال: “… لو لم تكن إسرائيل موجودة لكنّا قد أوجدناها”.
كلّ هذه التصريحات تشي بما قاله الكاتب والمغنّي الأميركي “جيمس فان” (مواليد 1977): “… لا أحد يستطيع أن يفهم أميركا.. إلّا إذا وعى وتفهَّم التّأثير الذي باشره وما يزال يباشره الدِّين في صنع هذا البلد”.
وعليه، هناك رابط دينيّ وروحيّ ﺑـين اﻟبروﺗـﺴﺘﺎنتية واﻟﻴﻬﻮدﻳـﺔ مكّن اليهود من خلال آراء هذه الحركة التي تُشكّل القسم الأعظم من مسيحيّي أمريكا ﻣـــﻦ التغلغل إلى داخل المجتمع الأمريكي ومؤسّساته الحكومية. ومن ثمّ، فلا غرابة من احتضان أمريكا للكيان الصهيوني، إذ مبعثه تلك العقائد البروتستانتيّة التنبُّؤيّة التي تتضمّن ضرورة التجمّع اليهودي في فلسطين، وبخاصّة بعد ظهور ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ “الأصولية اﻟبروﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ” المتشدّدة داخل التيّار المسيحي، والتي تؤمن بأنّ عودة “المسيح المخلِّص” يجب أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين.
من هذا المنطلق، تمّ اختلاق الكيان الصهيوني، ومثلما كانت نشأة أمريكا نتيجة اندفاعة دينيّة، وتحقّق الحلم، فكذلك تمّ استغلال الدين من خلال أسطورة “الوعد الإلهي” للإقامة في أرض فلسطين و/أو أرض كنعان كما زعموا. وقد كان ظهيرهم في ذلك البروتستانت الذين انتشروا في أوروبّا وأمريكا ليكونوا الأرض الخصبة للمسيحيّة الصهيونيّة؛ إذ بدأت الدّعوات للرجوع إلى “أرض الميعاد” ومنها مثلا دعوة:
* السير هنري فينش” Henry Finch” (1558-1626م)، وهو أوّل من صدرت منه دعوة للتنبّؤ بقرب حلول استعادة اليهود للسلطان الزّمني، ونشر دراسة العام 1621م حول “الاستعادة الكبرى للعالم” دعا فيها إلى استعادة “إمبراطورية الأمّة اليهودية”. وقال “… ليس اليهود قلّة مبعثرة، بل إنّهم أمّة، ستعود إلى وطنها، وستُعمِّر كلّ زوايا الأرض، وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد”.
* أوليفر كرمويل “Oliver Cromwell” (1599-1658م)، رئيس المحفل البيوريتاني، الذي ألغى قانون نفي اليهود وأقرّ عودتهم إلى إنجلترا بسبب “نفعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس له”.
* الحاخام شبطاي “Sabatay Sevi ” تسفي (1626-1676م) وهو من مواليد “أزمير” وقد ادّعى في العام 1648م أنّه المسيح المخلّص، وسيقود اليهودَ إلى أرض الميعاد، وحاربه اليهودُ المحافظون والحاخامات الرسميّون، وتمّ سجنه من قِبل الدولة العثمانية العام 1666م بتهم بثّ الفتنة وإفساد الديانة اليهودية وادّعاء النبوة. وبالمناسبة، شبّه “أفيغدور ليببرمان” نتنياهو بهذا الحاخام الكاذب الذي ادّعى النبوّة.
* وجّه عالما اللّاهوت البيوريتنيان الإنجليزيان “جوانا” و “ألينزر كارترايت” مذكرة إلى الحكومة البريطانية طالبا فيها (بأن يكون للشّعب الإنجليزي ولشعب الأرض المنخفضة شرفُ حمل أولاد إسرائيل وبناتها على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إيّاها إرثا أبديًّا، وأن يكون لانجلترا بعد ذلك شرف نقلهم على بواخرها إلى فلسطين تحقيقاً للإرادة الإلهية.
إلى جانب هذه الدّعوات، تمّ تأسيس جمعيّات وحركات في بريطانيا بغية الترويج للمسيحية بين اليهود وإقناعهم بالرّجوع إلى فلسطين، ومنها:
* جمعية التبشير الكنسية (1799م) التي انتشرت بشكل واسع في منتصف القرن 19م، وأصبحت منبرا أساسيّا للمسيحيّين “الصهاينة”.
* جمعية لندن (1809م) بإدارة القسّ لويس واي، وكان اللورد “شافتسبوري”( (1801-1885أوّل من أطلق دعوة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” واعتبر أنّ اليهود هم الأمل في العودة الثانية للمسيح بعودتهم إلى فلسطين.
* الحركة المسيحية الصهيونية المسمّاة”التدبيرية/ القدرية” (منهج لتفسير الكتاب المقدّس) ومؤسّسها المبشّر الايرلندي، القسّ جون نلسون داربي”John Nelson Darby”(1801-1882) وأهمّ عقائدها أنّ إسرائيل كانت مملكة الله على الأرض وأنّ المجيء الثاني للمسيح لن يتمّ إلاَّ باستعادة كاملة لـ”أرض إسرائيل” إلى اليهود. هذا المعتقد لاقى شعبيّة كبيرة بين البروتستانت في إنكلترا والولايات المتحدة.
هذه الدّعوات والحركات بدأت تشقّ طريقها نحو الترجمة السياسية “للوعد الإلهي” عمليّا في القرن 19م، وتجلّى ذلك في:
– ولادة فكرة الدولة اليهودية بين (1831-1841) على يد الّلورد المعروف باسم هنري بالمرستون” Palmerston” (1784-1865م) وزير خارجيتها (رئيس الوزراء فيما بعد) فهو الذي حوّل طموح وجهد الإنجيليين إلى برنامج جيو/ سياسي ربط به اليهود بالمصالح البريطانية في الشّرق الأوسط.
– إنشاء أوّل قنصلية انجليزية في القدس العام 1839م وتعيين قسّ بروتستانتي نائبا للقنصل.
– تأسيس البرلمان الانجليزي للجنة “إعادة أُمّة اليهود إلى فلسطين” العام 1844.
– بداية العمل بـ”المكتب الاستعماري” العام 1845م الذي وضع الخطط الأوّلية لإقامة مستعمَرة يهوديّة في فلسطين لتصبح دولة عبريّة مستقلة فيما بعد، وهذه الخطط شملت طرد السكان المحليين لخلق أماكن إقامة للمهاجرين الجدد.
– تأسيس “صندوق استكشاف فلسطين” في لندن العام 1865م برعاية الملكة “فكتوريا” وبرئاسة رئيس أساقفة كانتربري لتمويل البعثات الاستكشافية التي وضعت الخطط تمهيدا للاستيطان. وقد اقترح “لورانس أوليفنت” (1829-1888م)، البرلماني البريطاني ووزير الخارجية في كتابه “أرض جلعاد” العام 1880م إقامة مستوطنة يهودية شرق الأردن، تكون تحت السيادة العثمانية والحماية البريطانية، ويهاجر إليها يهود روسيا ورومانيا. أمّا سكّان هذه المنطقة من العرب فيتمّ تجميعهم في منطقة خاصّة بهم كما جرى للهنود الحمر في أميركا.
– دعوة رئيس وزراء بريطانيا “كامبل بنرمان” (1836-1908م)، إلى مؤتمر العام 1907 حضرته سبع دول أوروبية وفيه اتُّخذ قرار زرع “جسم غريب” في العالم العربي يكون ولاؤه للغرب ويفصل المشرق عن المغرب.
عموما، فإنّ مشروع نقل اليهود إلى فلسطين لقيَ آذانا سياسيّة صاغية منذ منتصف القرن 19م. ومع تصاعد قوّة ونفوذ الولايات المتحدة وزيادة وزنها الاقتصادي والسياسي والعسكري، نشطت داخلها الحركة المسيحيّة الصهيونية التي تؤمن بأنّ:
•دعم إسرائيل هو التزامٌ دينيّ، وشرعيّة الدولة اليهودية نابعة من التشريع الإلهي.
• أرض إسرائيل هي كلّ الأرض التي وعد الله بها إبراهيم (عليه السلام) وذريتَه (أي من النيل إلى الفرات).
• العمل بشعار مفاده: “أنّ الله يبارك إسرائيل ويلعن لاعنيها”. ومن ثمّ، فإنّ دعمها طريق إلى بركة الرب، ومن الضّروري احترام إرادة الرب إذا ما تناقضت مع إرادة الإنسان.
قيام أمريكا والكيان الصهيوني كان على الجثث
كنّا نقرأ في المقرّرات الدراسية قصّة ما يسمّى “الكشوف الجغرافيّة”، وهي لـ”مغامرين” و”فضوليّين”. ولم نكن يومها نَعِي بأنّه استعمارٌ حديث قد وُلد في حجرها. وهناك دراساتٌ ظهرت في بداية القرن 16م تحدّثت عن الهنود الحمر ووصفتهم بأنّهم “وحوش لا تعقل ويأكلون زوجاتهم وأبناءهم”. وقد لعبت النّظرة الاستعلائيّة والاستعمارية لانجلترا، وبعدها تلك التي سُمّيت لاحقا الولايات المتحدة الأميركية التي قامت حكوماتها بحملات إبادة ضدّ السكان الأصليّين وتدمير مزارعهم وطمس هوياتهم واقتلاعهم من جذورهم، وتهجيرهم من المناطق الخصبة إلى أخرى قاحلة لا تصلح للعيش. وقد بلغت ذروة الإبادة في حقّهم في عهد الرئيس الأمريكي”أندرو جاكسون” (1829-1837م). ذلك ما ينسحب على ابنها المدلّل الكيان الصهيوني قبيل “وعد بلفور” 1917 وبعده، وما يجري أمام أعيننا في غزّة هو فصل الخطاب. وبالتالي، فهما صِنوان، في البعد الدينّي، والإجرام لاغتصاب أراضي الشّعوب.
ختاما، من الضّروري الإشارة إلى كتاب “اختراع الشّعب اليهودي” للمؤرّخ الإسرائيلي “شلومو ساند” 2009م (تُرجم إلى العربية)، ومن بين ما جاء فيه، أنّ:
– اليهود الذين يعيشون اليوم في إسرائيل لا يتحدّرون من نسل الشّعب العتيق الذي سكن مملكة “يهوذا” خلال فترة الهيكل الأول والثاني، إنّما تعود أصولهم إلى شعوب متعدّدة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتّى من حوض البحر المتوسط والمناطق المجاورة، بمن فيهم يهود اليمن وأوروبا الشرقية “الإشكنازيين” (أي يهود الشّتات الذين تجمّعوا في الإمبراطورية الرومانيّة المقدّسة في نهاية الألفية الأولى”1-999م”.
– فكرة نفي اليهود من أرض فلسطين، هي مجرّد أسطورة، لأنّ خراب “أورشليم” وتدمير الهيكل على يد الرّومان لم يُفْضيا إلى خروج جماعي إلى الشتات. لذا، فالادّعاء أنّ لهم حقّا تاريخيا في الأرض أكذوبة، كون أصول اليهود المعاصرين لا تنتهي إلى أرض فلسطين القديمة.
– ظهور مفهوم وحدة عرق الشّعب اليهودي، وفكرة القومية اليهودية كان في النصف الثاني من القرن 19م، وذلك في أوروبا على يد مجموعة من المثقّفين اليهود ممّن تأثّروا بفكرة القوميّة الألمانيّة، وشرعوا في اختراع ورسم اليهوديّة باعتبارها تاريخ أمّة ومملكة، ويعدّ المؤرّخ، والحاخام الألماني هنريش جرينس (1817-1894م) هو مهندس الهويّة اليهودية.
– اليهود الموجودين حاليّا، هم مزيجٌ من الأصول العرقيّة المختلفة، لا يجمعهم إلّا الديانة اليهودية.
– كلمة الشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، لا ينسحب على الشّعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية؛ إذ لا توجد ثقافة مشتركة بين يهود ألمانيا، والعراق، والمغرب، هذه الطّوائف اليهوديّة كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة وفق البلد الذي تقيم فيه. ثمّ إنّهم لا ينحدرون من أصل واحد.
وعليه، فإنّ مصطلح “شعب” فضفاض، إذ لم يكن في أيّ زمن مضى شعب يهودي واحد مثلما لم يكن هناك شعب مسلم واحد. واليهوديّة، شأنها شأن المسيحيّة والإسلام، كانت على الدّوام حضارة دينيّة وليست ثقافة شعبيّة قومية. وبالتالي، فإنّ الذي وحّد اليهود على مرّ التاريخ، هي مكوّنات عقائديّة وممارسة طقوس غارقة في القِدم، علما أنّه لا موطنَ للإيمان، ومن ثمّ، فالشّعوب ينبغي أن يكون لها وطن، فاضطرّت الصهيونيّة إلى تأميم الديانة اليهوديّة وتحويل تاريخ الجماعات اليهودية إلى سيرة شعب “إثني”. وإذا كان لكلّ شعب تاريخٌ تتداخل فيه الأساطير بالحقائق، ويظلّ ذلك حكايات الشّعوب تتناقلها جيلا بعد جيل على سبيل الفخر، إلّا في حالة إسرائيل؛ إذ الأساطير تتداخل مع الدّين والمصالح السياسية لتجعلها أكبر حجّة للمطالبة بالتّواجد في المنطقة وإبادة شعب (شعب فلسطين).
اليهود الذين يعيشون اليوم في إسرائيل لا يتحدّرون من نسل الشّعب العتيق الذي سكن مملكة “يهوذا” خلال فترة الهيكل الأول والثاني، إنّما تعود أصولهم إلى شعوب متعدّدة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتّى من حوض البحر المتوسط والمناطق المجاورة، بمن فيهم يهود اليمن وأوروبا الشرقية “الإشكنازيين” (أي يهود الشّتات الذين تجمّعوا في الإمبراطورية الرومانيّة المقدّسة في نهاية الألفية الأولى”1-999م”.
كلمة الشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، لا ينسحب على الشّعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية؛ إذ لا توجد ثقافة مشتركة بين يهود ألمانيا، والعراق، والمغرب، هذه الطّوائف اليهوديّة كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة وفق البلد الذي تقيم فيه. ثمّ إنّهم لا ينحدرون من أصل واحد. وعليه، فإنّ مصطلح “شعب” فضفاض، إذ لم يكن في أيّ زمن مضى شعب يهودي واحد مثلما لم يكن هناك شعب مسلم واحد.