بعد ترقّب دام ما يقرب من ثلاثة أشهر، وبعد أن كاد كثير منّا -خاصّة من الفلاحين- يقنطون من رحمة الله. ها هي رحمات الله تصيبنا، وها هو الغيث ينزل مدرارا كما كنّا نتمنّى بل أكثر، حتى أمسينا نقرأ ونسمع قول الله في كتابه: ((اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).. نقرأ هذه الآيات كما لو أنّها أنزلت في أيامنا هذه لتصف ما أصابنا من فضل الله ورحمته، بعد بلائه ونقمته.
إنّها نعمة عظيمة أنّنا نتعامل مع ربّ رؤوف رحيم بعباده، يصيب عباده بالضراء، ويبتليهم بنقص من الأموال والأنفس والثمرات، ليحرج الدنيا من قلوبهم، وليفرّوا إليه فيعطيَهم الدّنيا ومعها الآخرة، ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين)).. لكنّ السؤال الذي ينبغي أن يُطرح إزاء هذا الفضل: على أيّ شيء سيحملنا هذا اللّطف الذي يعاملنا به مولانا سبحانه؟ ما هو المقابل الذي سنقّدمه؟ هل سننطلق إلى أراضينا نحرث ونزرع فرحين، وننسى شكر الله؟! أم إنّنا سنشكر مولانا -سبحانه- بقلوبنا قبل ألسنتنا، ونرجع إلى أنفسنا باللوم والعتاب على تفريطها في حقّ الرؤوف الرّحيم سبحانه، ونستحي من أنفسنا وأعمالنا أمام فضل الله؟
حقيق بنا أن نستحي من الله أنّه يعطينا ويفرّج عنّا، ونحن الذين نفرّط في جنبه ونقصّر في حقّه، ونغفل عن طاعته ونعصيه ونتعدّى حدوده.. ذنوبنا -إلا من رحم الله منّا- قد بلغت عنان السّماء، ومع ذلك يأمر الله السّماء أن تنزل غيثها لتسقي أرضنا وتطهّر هواءنا وأجواءنا وشوارعنا، ويأمر الأرض أن تخرج لنا من خيراتها وتكتسي حلة خضراء تسرّ الناظرين.. شرّنا إلى الله صاعد، وخيره علينا نازل، فسبحانه من حليم كريم!
نعمة الغيث بعد الجفاف وحدها يفترض أن تجعلنا نستحي من الله.. كيف لو نظرنا إلى النّعم الكثيرة التي حفظها الله لنا ومتّعنا بها؟ نعمة الصحة والعافية التي نتقلّب فيها ليلا ونهارا؛ نبيت في صحة، ونصبح في عافية، نرى ونسمع ونتكلّم، ونأكل ما نشاء، ونقوم ونقعد ونسعى وننام.. ونحن نرى من حولنا المرضى يتأوهون، ونزور المستشفيات فنرى من أقاربنا وجيراننا ومعارفنا من يتلوّى من الألم ويتأوّه ولا يغادر السّرير ولا تكاد تفارق ذراعيه الأنابيب إلا قليلا. يُحرم من كثير ممّا يشتهي ولا يأكل إلا ما يسمح به الطّبيب.. الصحّة والعافية نعمة، ومعها نعمة الأمن والأمان التي أبقاها الله لنا، وابتلى كثيرا من عباده بسلبها، خاصّة إخواننا المسلمين الذين روّعتهم الحروب وأنهكهم التشريد، وتعرّضوا للإبادة، وفقدوا الأبناء والآباء والإخوة والأحباب…
نِعم كثيرة ننساها لأنّنا تعوّدنا عليها وأصبحنا ننظر إليها على أنّها حق لنا، وليست فضلا من الله وكرما.. وأمسى الواحد منّا لا يستحي من خالقه أن يعصيه وهو يسعى على أرضه تحت سمائه يأكل من رزقه!
يُروى أنّ رجلا قد أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، جاء إلى التابعيّ العَلَم إبراهيم بن أدهم، عليه رحمة الله، فقال: يا إبراهيم، لقد أسرفت على نفسي بالمعاصي والذنوب، وأردت أن أتوب إلى الله -عز وجل- فماذا أصنع؟ قال إبراهيم: إذا أردت أن تترك المعاصي وتكون من أهل التوبة، فإني أعظك بخمس خصال. قال: هاتها يرحمك الله. قال إبراهيم: أما الأولى، إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه. قال الرجل: سبحان الله! وهل الأرزاق كلها إلا من الله يا إبراهيم؟! فقال له: فهل يجدر بك أن تأكل من رزقه وتعصيَه؟! قال: لا.. هات الثانية. قال إبراهيم: أما الثانية، إن أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه، ابحث عن أرض ليست لله فاعصه هناك، ابحث عن مكان ليس ملكا لله وليس في ملك الله، واعصه كما تشاء. قال: هذه أعظم، فالأرض والسماء ملكه فأين أسكن؟ قال: أيُحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن أرضه ثم تعصيه عليها؟ قال: لا.. هات الثالثة. قال: أما الثالثة، إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان آمن لا يراك الله فيه. قال: وكيف ذلك والله يسمع ويرى، وهو مطلع على ما في السرائر والضمائر: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]؟! قال: ألا تستحي أن تأكل من رزق الله وتسكنَ في بلاده ثم تعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به من المعاصي. قال: يرحمك الله، هات الرابعة.. قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك، قل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صالحا. قال: كيف ذلك يا إبراهيم؟! والله جل وعلا يقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34].. قال: تعلم أن الموت يأتي بغتة، وتعلم أن ملك الموتِ لا يُنظِر ولا يُؤخِّر أحداً، فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قال الرجل: هات الخامسة.. قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم، قاومهم وامتنع عن الذهاب معهم.. وخذ بنفسك إلى الجنة. قال الرجل: إنهم لا يتركونني ولا أستطيع. فقال له إبراهيم: عجباً لك يا رجل، تأكل من رزق الله، وتسكن في أرضه، وهو يراك في كل مكان، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا نارا، ثم تعصيه؟ فقال الرجل: يا إبراهيم، حسبي حسبي، أستغفر الله وأتوب إليه. فكان لتوبته وفيا، وعاهد الله على الطاعة.
مولانا -سبحانه- غنيّ عنّا، ومع ذلك يتودّد إلينا بنعمه وآلائه لنشكره ونستحي منه.. والحياء من الله فرض واجب، وعبادة من أعظم العبادات، وهو باب كلّ خير في الدّنيا والآخرة.. ولو أنّ العبد رُزق الحياء من الله في قلبه، لانقلبت حياته كلّها نورا وحبورا.. لا يخاف إلا من الله، ولا يحسب الحساب إلا لنظر الله ولا يهتمّ إلا بما يرضي الله.. إذا أذّن المؤذّن استحى من الله العليّ الأعلى أن يناديه فلا يجيب النّداء. يستحي من الله أن يؤْثر دفء الفراش على دفء الوقوف بين يديه جلّ وعلا، وأن ينشغل بدنياه الفانية والمنادي ينادي الله أكبر، أو يعكف على هاتفه ونداء الحقّ يصدح في الآفاق: “حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح”. يستحي من الله أن يظلم عبدا من عباد الله وهو يعلم أنّ الله أقدر عليه منه على ذلك العبد الذي ظلمه.
العبد المؤمن يستحي من الله أكثر من حيائه من والديه ومن الرجل الصالح الذي يحترمه، لأنّه يعلم أنّ الله أعظم وأكرم وأحقّ بأن يستحى منه.. عندما قال سعيد بن يزيد الأزديّ للنّبيّ -صلَّى اللَّه عليه وسلّم: أَوْصِنِي، قال له الحبيب -عليه الصّلاة والسّلام-: “أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِح” (أحمد).
فكلّ ذنب يتركه العبد إذا كان بحضور رجل صالح، فالأولى له أن يتركه إذا كان خاليا لا يراه إلا الله، لأنّ الله العليّ الأعلى أحقّ أن يستحى منه، كيف لا وهو الخالق والرازق وبيده الأجل وبين يديه الموقف والحساب. ويوم القيامة يسأل الله -سبحانه- عبده عن ذنوبه التي كان يجترحها في خلوته، فيستحي العبد من ربّه غاية الحياء لأنّه كان في الدّنيا يستخفي من المخلوقين ولا يستخفي من خالقه.. هذا أحد أعلام الأمّة من التابعين: الأسود بن يزيد، عاش حياته صائما قائما، يحجّ كلّ عام؛ لمّا حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزعُ؟! ومَنْ أحق مني بذلك؟ والله لو أُتيت بالمغفرة من الله تعالى لأهمّني الحياء منه ممَّا قد صنعت، وإن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذَّنْبَ الصغير، فيعفو عنه، ولا يزال مستحيًا منه.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.