غزّة المباركة.. وغزّة الفاضحة
غزّة المباركة.. وغزّة الفاضحة
لا تزال غزة تفجعنا وتبكينا، ثمّ تلهمنا وتُحيينا.. غزّة التي نسيناها سنوات بل عقودا، رغم ما كانت وما زالت تعانيه من حصار خانق، أيقظتنا بطوفانها الهادر ثمّ أحيت قلوبنا بدروسها ورسائلها المؤثّرة.. وما كان لها أن تفعل كلّ هذا بالأمّة لولا أنّها مدينة مباركة.. وكيف لا تكون كذلك، وهي أوّل مدينة من فلسطين فتحها المسلمون في عهد الفاروق عمر بن الخطّاب على يد عمرو بن العاص ومن معه من الصحابة والتابعين، وكان فتحها مقدّمة لفتح بيت المقدس؟ وكيف لا تكون مباركة وقد كان نصر المسلمين فيها على المغول فأْلا حسنا لنصرهم عليهم في عين جالوت في العام 658هـ.
في ذلك العام، احتل المغول دمشق، وفي منتصف رمضان أرسل قائدهم كتبغا نويان فرقة بقيادة بيدرا إلى غزّة، وهناك التقت بفرقة أرسلها القائد المسلم قطز بقيادة بيبرس، ودارت معركة حامية بين الفرقتين، انتهت بنصر ساحق للمسلمين وهزيمة مذلة للمغول المحتلين، ما رفع معنويات المسلمين حتّى طاولت عنان السّماء، فكان ذلك من أسباب النصر المظفّر الذي حقّقه المسلمون بعد 10 أيام في عين جالوت، وهو النصر الذي غيّر مجرى التاريخ بفضل الله أولا، ثمّ ببركة انتصار غزّة.. ولهذا فإنّ انتصار غزّة في أيّ زمان هو بشرى خير للأمّة المسلمة، ونذير شؤم لأعدائها.. وإذا فهمنا هذه الحقيقة أمكننا إدراك السرّ الذي يجعل الصّهاينة المتحالفين مع الصليبيين يجلبون بخبلهم ورجلهم وعملائهم حتى لا ينتصر المسلمون المجاهدون في أرض غزّة، لأنّهم يعلمون أنّ ما بعد نصر غزّة لن يكون كما قبله.
أيا تكن نتيجة هذه المعركة، فإنّ غزّة المباركة لن تموت، وإن لم تنتصر في هذه المرّة، فستنتصر في مرّة قريبة قادمة بإذن الله.. ولو لم يكن لها من فضل على الأمّة وعلى العالم والبشرية إلا أنّها عرّت اليهود وحلفاءهم وأعوانهم، وعرّت يهود القبلة، وعرّت بعض حكّام المسلمين، وجعلت المسلمين يشعرون بمرارة بعدهم عن دينهم.. لو لم يكن لغزّة إلا هذا فكفاها.
غزّة المباركة عرّت اليهود على حقيقتهم، وأثبتت للعالم صحّة ودقّة وإعجاز ما تحدّث به القرآن عنهم، من أنّهم أشدّ النّاس عداوة للذين آمنوا، ورأى العالم كيف أنهم يستهدفون الجرحى في المستشفيات، ولا يسلم من إجرامهم الأطفال الخدّج، وكيف يقصفون المباني العامرة بالمدنيين، ويستهدفون حتى الملاجئ والمدارس العامرة باللاجئين.
غزّة فضحت خوف اليهود ورعبهم وجبنهم وحرصهم على الحياة وشدّة خوفهم من الموت: وفي الأيام القليلة الماضية انتشرت تسجيلات لجنود الصهاينة ومعهم جنود المارينز الأمريكان وهم يصرخون مذعورين كالأطفال ويستغيثون بقادتهم ليخرجوهم من الجحيم الذي هم فيه، ويقولون إنّهم يقاتلون أشباحا لا بشرا.. وينتحب بعضهم بالبكاء كالأطفال، ويقولون: إنّنا لا نريد أن نموت، نريد أن نعود إلى بيوتنا وأطفالنا.
غزّة فضحت إدمان اليهود للكذب والتزوير، وقد وقفت البشرية مشدوهة أمام حجم التلفيق الذي يمارسه الصهاينة، ليس في إعلامهم فحسب، إنّما على مستوى قيادتهم التي تتبنّى تزوير الفيديوهات والصور، لتبرّر إجرامها.. وقد وقف العالم في الأيام الماضية، خلال اقتحام مستشفى الشفاء، مشدوها أمام غباء الصهاينة الذين لجؤوا إلى أغبى الأساليب التي لا تنطلي على الأطفال ليثبتوا دعواهم الكاذبة باختباء عناصر القسّام تحت المستشفى!
غزّة شدّت انتباه المسلمين إلى حقيقة مرّة مرارة العلقم، وهي أنّ هناك يهودا آخرين يستقبلون قبلة المسلمين، هناك بين المسلمين من يتوجّهون إلى الكعبة ولكنّ قلوبهم مع اليهود ضدّ المجاهدين والمرابطين.. في الأمّة علمانيون يردّدون أكاذيب اليهود ويروّجون لما يقوله الإعلام الصهيونيّ، ومنافقون يتّهمون حماس بأنّها ارتكبت مجازر في حقّ أطفال اليهود، ويتّهمون مرابطيها بأنّهم يختبئون تحت الأرض يأكلون ويشربون ويتركون المدنيين فوق الأرض للقصف والتقتيل.. تماما كما قال المنافقون الأولون: “ما نرى قراءنا هؤلاء إلا أرغب بطونا وأجبن عند اللقاء”.
غزّة كشفت حقيقة مؤلمة في صفوف الأمّة، وعرّت أناسا من بني جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا ويقولون من قول خير البرية، يردّدون: قال الله قال رسوله، لكنّهم يحرّفون الكلم عن مواضعه ويستدلّون ببعض الكتاب ويهملون بعضا ويظهرون بعض الأحاديث ويخفون بعضا.. يكمّلون الدّور القذر الذي يؤدّيه العلمانيون، ويتمّمون مهمّتهم.. يتّهمون المجاهدين بأنّهم غامروا بأرواح المدنيين وتسبّبوا في مقتل الآلاف.. تماما كما فعل المنافقون الأوّلون الذين أنزل الله فيهم قوله: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169))).
ومنهم من يتّهم المجاهدين في غزّة بأنّهم يوالون الشيعة ويتعاونون معهم.. يسكتون عمّن يتعاون مع الصهاينة والصليبيين، ويتّهمون حماس بأنّها تقبل إعانات الشيعة.. يسكتون عمّن يحاصر غزّة ويمنع عن أهلها الماء والغذاء، ثمّ إذا اضطر أهل غزّة إلى أخذ الإعانة من الروس وإيران، صاحوا في وجهها: حماس صنيعة رافضية.. بل إنّ من هؤلاء الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، من سبق له أن اتّهم حماس بأنّها صنيعة اليهود! اليهود يجيّشون جيشهم ويستعينون بأمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ليحاربوا حماس، ثمّ تسمع بين المسلمين من يقول: حماس صنعها اليهود!
بل إنّ من هؤلاء المفتونين بالطوائف من نصحوا المرابطين بأن يتركوا جهاد الصهاينة ويتفرّغوا لتعليم الناس التوحيد والسنّة، ويعلّموا نساء غزّة أحكام الحجاب.. وكأنّ أهل غزّة مشركون يعبدون الأصنام حتّى نعلّمهم التوحيد! أو كأنّ نساء غزّة عاريات حتّى يؤمرن بالحجاب.. نساء غزّة الطّاهرات لا يخلعن الحجاب حتّى وهنّ في البيوت.. يصلّين به وينمن به، حتّى إذا تعرّضت بيوتهنّ للقصف وكتب الله لهنّ الشهادة، انتشلن من تحت الأنقاض مستورات.. وخلال الأربعين يوما الماضية لم يحصل أن أخرجت امرأة واحدة من تحت الأنقاض بدون حجابها.. فويل ثمّ ويل لمن يطعن في هؤلاء: يقول الله تعالى، كما في الحديث القدسيّ: ((من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب)).
ولعلّ من المفارقات التي تحار لها القلوب المؤمنة والعقول المنصفة؛ أن تسمع دعاة مسلمين يطعنون في المجاهدين والمرابطين والمقاومين المسلمين. في مقابلهم آلاف بل مئات الآلاف من الغربيين يخرجون ليندّدوا بالإبادة التي يتعرّض لها المسلمون في غزّة، ويسبّون الصهاينة ومن يدعمهم! وقد رأينا غربيين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يبكون من هول ما رأوا من مجازر في غزّة.
غزّة فضحت بعض حكّام المسلمين الذين ما عادت تهمّهم رابطة الدّين، وما عادت تؤثّر فيهم صور دماء المسلمين وأشلائهم، وما عادت آذانهم تسمع صرخات الأطفال والنّساء! يجتمعون لأجل أن يسجّلوا الحضور، ومنهم من يضحك، وكأنّ الأمر يتعلّق باجتماع لتنظيم دورة رياضية.. يجتمعون فيجدون بينهم من جسده بينهم وقلبه مع الأعداء، يرفض أن يتّخذ المسلمون قرارات تزعج الصهاينة والأمريكان، ويحرص على ألا يرتفع سقف الموقف عن التنديد والشجب والمطالبة.
غزّة فضحتنا نحن أيضا في ديارنا وبيوتنا وشوارعنا.. نرى كلّ يوم صورا ومقاطع تفتت القلوب الحيّة فما نترك لهونا وعبثنا وضحكنا.. إخواننا يبيتون ليلهم تحت أصوات القنابل والطائرات وينتظرون في كلّ لحظة أن تسقط عليهم سقوف بيوتهم.. ونحن نبيت على أصوات الأغاني في الأعراس.. إخواننا يبكون ويصرخون ونحن نغنّي في الأعراس.. أيّ قلوب هذه التي نحمل في صدورنا؟ أين نحن من قول ربّنا: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ))؟ أين نحن من قول شفيعنا المصطفى -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”؟ هل يصحّ أن يسهر المسلمون في غزّة على أصوات الطّائرات والقنابل وعلى صرخات الأطفال والنّساء، بينما نسهر نحن على أصوات الأغاني في الأعراس وفي هواتفنا؟ هل يصحّ أن ينشر إخواننا صور دماء إخوانهم وأشلاء أبنائهم على مواقع التواصل ليستغيثوا بنا، بينما نحن ننشر على مواقع التواصل رحلاتنا ونزهاتنا وأطباق طعامنا وأكواب قهوتنا؟!
إخواننا في غزّة يكابدون الجوع والعطش والبرد، بينما نصرّ نحن على التبذير وعلى اقتناء الكماليات، ونعجز حتى عن مقاطعة بضائع الشركات التي تدعم الصّهاينة؟!
إنّنا لن نضرّ إلا أنفسنا، لأنّنا نستجلب نقمة الله علينا في الدّنيا والآخرة.. ومن خذل مسلما وضحك في مصيبته، أبكاه الله عندما يضحك النّاس.. يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما من امرئ يخذل امرئا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته”.. إنّنا نتّجه إلى حيث تحيق بنا سنّة الله في الاستبدال دولا وأفرادا: ((إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
سلطان بركاني
2023/11/18