الرأي
صفحات من أيامنا تقرؤها الأجيال القادمة
سلطان بركاني
2023/11/15
عندما نفتح كتب التاريخ، لنقف على أهمّ الأحداث التي شهدها المسلمون في القرون الخالية من أمّة الإسلام، تشدّ انتباهنا -حينا- صفحات مجللة بالبطولات والانتصارات والريادة في سائر العلوم والاختراعات، تشعرنا بالعزّ والفخر بانتمائنا لهذه الأمّة العظيمة التي قدّمت للعالم ما لم تقدّمه أمّة أخرى.. لكنّنا لا نلبث أن نقف عند صفحات أخرى تؤرّخ لأحداث يعجب القارئ من أنّها جزء من تاريخ خير أمّة أخرجت للنّاس، مسوّدة بالخيانات والصّراعات الداخلية والإخلاد إلى الأرض والتعلّق بالدّنيا.. وهي قليلة مقارنة بصفحات العزّ والإباء، لكن ما من مسلم إلا يتمنّى أن لو قطّعت من تاريخ الأمّة لئلا تبقى شامة سوداء في جبينها النّاصع!
تفتح كتابا يتحدّث عن تاريخ الدولة الأموية، فتجد بين صفحاته أحداثا كثيرة تؤرّخ لصمود المسلمين في الفتوحات ولصبرهم وثباتهم وقوتهم في دحر المتسلّطين والظّالمين والمتجبّرين في الأرض، وتجد في المقابل صفحات تؤرّخ لنكسات مشينة حين دبّ الاختلاف بين المسلمين وتنافسوا في الدّنيا والمناصب.. وهكذا في تاريخ الدّولة العباسية، والدولة الأيوبية، والمماليك والسلاجقة.. ولا يختلف الأمر إذا فتحنا تاريخ المسلمين في الأندلس والمغرب الإسلاميّ.
وفي أيامنا هذه التي صارت فيها الأمّة الإسلاميّة دولا بينها حدود وخلافات: طغت الأحداث والمواقف السّوداء الحالكة، على مواقف العزّ والإباء، وأصبحت مواقف الثّبات والصّمود قليلة ونادرة، لكنّها -ولله الحمد- موجودة وباقية، لتثبت صدق ما أخبر عنه الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وآله وسلّم- عن بقاء ثلة من أمّته يدافعون عن دينه الحقّ، يجاهدون أعداءه، وينفون عن الدّين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.. يصدعون بكلمة الحقّ لا يخشون في الله لومة لائم، ويقفون المواقف التي يرجون بها رضوان الله، ولا يهمّهم أن يسخط العالم أجمع أو يقف على قدم أو ساق.
في أحداث غزّة الأخيرة؛ أمست الأمّة تلتفت يمنة ويسرة تبحث عن أصحاب الكلمة والرأي فيها، ففوجئت بأنّ من كانت تنتظر منهم المواقف الصّادعة والواضحة قد لزموا الصّمت! فكادت تفقد الأمل، خاصّة وهي ترى أحبار اليهود يصدرون بيانا يؤيّدون فيه إجرام جيشهم المحتلّ، ويبرّرون له قتل الأطفال والنّساء في المستشفيات.. كاد اليأس يخيّم على الأجواء لولا أنّ الله قيّض ثلة من العلماء الذين طالما سلقتهم ألسنة الجاهلين والمنافقين ليبدّدوا سحائب اليأس؛ 100 عالم وداعية، على رأسهم العلاّمة محمد الحسن ولد الددو، قيّضهم الله ليصدعوا يوم 9 نوفمبر الماضي بكلمة الحقّ، ويصدروا بيانا شافيا وافيا حول ما يجب على الحكومات والأفراد إزاء ما يجري في غزّة، تحت عنوان “نداء الأقصى وغزّة”، أكّدوا فيه أنّ ما قامت وتقوم به المقاومة الباسلة في أرض غزّة هو جهاد مقدّس، وأنّ موالاتها واجبة على كلّ مسلم، وبيّنوا بكلّ وضوح أنّ من يعين العدوّ على المجاهدين بأيّ شكل من أشكال الإعانة فهو كافر مرتدّ، وذكّروا الأمّة والعالم أنّ أرض فلسطين هي وقف ترجع ملكيته للأمّة المسلمة، لا يجوز التنازل عن شبر منها، وأنّ أيّ تصرّف فيها يعتبر باطلا أيا كانت الجهة التي تقف وراءه.
أمّا عن نصرة غزّة، فقد أوضحوا أنّها واجبة على كلّ قادر، ولا يستأذن فيها أحد، وأكّدوا على أنّ التخلّي عنها يعتبر فرارا من الزّحف، وثنّوا بالتأكيد على وجوب النفير على كلّ مستطيع.. كما لم ينسوا الإشارة إلى أنّ إغلاق الحدود والمعابر في وجه كلّ من يريد إغاثة إخوانه بنفسه وماله، يعتبر خيانة لله ورسوله، وحراسة للعدوّ ضدّ المسلمين.
قبل أن يختموا بيانهم بالتأكيد على أنّ الصهاينة الموجودين في أرض فلسطين لا يوصفون بأنّهم مدنيون بل هم محتلّون معتدون.. ويدعموا حملة المقاطعة التي تداعى إليها المسلمون في العالم، ويؤكّدوا على أنّها من الجهاد الاقتصاديّ المطلوب في مثل هذا الوقت.
كان بيانا أثلج الصّدور في زمن الخور والخنوع، وأعاد الأمل إلى قلوب المسلمين بأنّ هناك بقية باقية من علماء الأمّة لا تزال متشبّثة بالميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا العلم.. بيان سيكتب على صفحات التاريخ بأحرف من ذهب، في مقابل كلمات الخور والخذلان التي نطقت بها ألسنة علماء ودعاة خاب بهم ظنّ الأمّة، وانكشفت حقيقتهم لمن اغتروا بهم عقودا من الزّمان.. ولا شكّ في أنّ هذا من بركات غزّة، حفظ الله أهلها ونصرهم على عدوّنا وعدوّهم.