ماذا لو…؟
ماذا لو…؟
عبد الوهاب دربال
2023/11/08
التقليد مفيد أحيانا، رغم أنّ الأصل هو الإبداع والتجديد والابتكار، فقد تجد الأمّة نفسها في وضع لا مخرج لها منه إلّا باستصحاب تجربة سابقة لأمّة أخرى قد تستأنس بها كلّيا أو جزئيا للتغيير وفرض الوجود واسترجاع الحق. والحكمة ضالّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها.
تخيّلوا معي لو تسلك الدول العربية مسلك دول الإتحاد الأوروبي ودول قيادة الحلف الأطلسي في التضامن للوقوف مع أوكرانيا في أزمتها مع الإتحاد الروسي وتتخذ قرارا واحدا صارما ومُلزِما لجميع أعضاء الجامعة العربية بالوقوف إلى جانب فلسطين وتزويدها بالمال والسلاح والعمل الإعلامي والسّياسي والدبلوماسي لاسترجاع حقِّها في وجود دولتها السيّدة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف كما تُكرٍّر صباحا ومساءً وعقب كل اجتماع لمختلف مجالسها.
وهي تقوم بذلك تقليدا للدول المتمدينة في الشمال والتي تقدم دروس السّيادة والشرعية والحقوق والحريات لدول الجنوب، بل وتجعلها شروطا لاتفاقياتها وفي أحيان كثيرة سببا لاعتداءاتها وتسليط العقوبات على شعوب دولنا العربية.
إنّ الإجرام الصهيوني العنصري في فلسطين الذي يحرق ويُبيد شعبا كاملا ويعتدي يوميا على أرضه ومقدّساته لا يمكن أن يُبرَّرَ بـ”الدّفاع عن النّفس” في الوقت الذي ترفع فيه شعارات الدفاع عن السّيادة الأوكرانية وحقِّها في اتخاذ أيّ موقف حتى ولو كان ذلك نكرانا لكل تعهدات أوروبا وقيادة الحلف الأطلسي في أمن روسيا وعدم امتداد الحلف شرقا.
تصوروا معي لو أنّ الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية قرّرت أن تقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني وتطرد من الجامعة من لم يلتزم بهذا القرار، ثمّ موَّلت ودرّبت وسلّحت الشعب الفلسطيني المقاوم، وآوَت عائلاتهم وتكفّلت بهم، ثمّ جنّدت دبلوماسيتها وإعلامها وحتى علاقاتها الاقتصادية لخدمة القضية باعتبارها -كما يدَّعُون- قضيتهم الأولى، ثمّ عزلوا وعاقبوا كلّ فلسطيني يعمل على التودُّد للاحتلال ويتعاون معه.
موقف أوروبا وقيادة الحلف الأطلسي من الأزمة الأوكرانية هو دليل حُجّة العرب الجديدة في الوقوف مع صاحب الحقّ ومساندته لو كان العرب أوفياء لعادتهم في التقليد على الأقل ليكون مفيدا هذه المرّة على غير العادة.
أنا على يقين أنّ هذا الطرح، رغم ما فيه من عدل ومنطق، يبقى حُلما لا يمكن أن يتحقق اليوم على أرض الواقع لأسباب عديدة وكثيرة على رأسها بقاء وذهاب الملك، وأدناها التّحجج بالواقع العربي المزري.
غير أنّ هذا الطّرح يزيح بوضوح الضبابية عن حقيقة القواعد التي تحكم العلاقات في المجتمع الدولي، إذ لا مكان للحق والحرية والكرامة الإنسانية، ولا معنى تطبيقيا لفكرة السّيادة ونُصرة المظلوم وتقرير المصير، كما أنّه يكشف أنّ ذريعة الإرهاب -وهو بالتّأكيد مُدانٌ باسم كل الشّرائع التي تضع الإنسانَ هدفها الأول- المصنوع خصّيصا للتّمكين للمستكبرين في العالم في الاستمرار في نهب ثروات الشعوب وإزهاق أرواحهم إلّا إذا أذعنوا إلى الاستغلال والاستعباد.
من يبدأ بقراءة هذا المقال قد لا يستمر إلى نهايته على اعتبار أنّ المُقاربة فيه طوباويةٌ عند البعض ونرجسيةٌ عند البعض الآخر، بل قد أجد العذر لمن يعتقد أنّ صاحب هذه المقاربة لا يعيش الواقع العربي ولا الدولي.
كلُّ ذلك مفهوم ومعلوم، ولكنّه الدليل القاطع على أنّ من هان عليه واقعُهُ إلى هذا المستوى يجب أن يعلم أنّ داء اليأس قد بلغ مستوى لا يمكن السكوت عنه، وأنّ المعالجة يجب أن تبدأ على سبيل الاستعجال، فمن يَهُن يسهل الهوان عليه.
صحيح أنّ من يفتقد وسائل الدفاع عن نفسه لا يُطالب بالدفاع عن غيره، ولكنّ ذلك لا يُبرِّئ الذّمة ولا يُخلي المسؤولية بل يؤكّدها ويرفعها إلى مستوى الأولوية، وكما قال الشابي رحمه الله:
ومن يتهيّب صعود الجبال
يعش أبد الدّهر بين الحُفر.
إنّ المنطق الذي جنّد أوروبا لشدّ ظهر الأكران يضعها في إحدى الخانتين:
إمّا أنّهم شركاء في الحرب ضد روسيا وهم بذلك يضعون أنفسهم موضع الشريك ويجب أن يتحمّلوا تداعيات المحارب كلها.
وإمّا أنّهم ينصرون مظلوما انتُهكت حقوقه -كما يقولون- فكان الواجب عليهم أن يُدينوا ما فعلوه مع كل من وقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية فاعتبروهم إمّا “إرهابيين” أو “مساندين للإرهاب”، كما فعلوا مع السودان وإيران وسوريا واليمن والعراق وغيرهم.
إنّ الإجرام الصهيوني العنصري في فلسطين الذي يحرق ويُبيد شعبا كاملا ويعتدي يوميا على أرضه ومقدّساته لا يمكن أن يُبرَّرَ بـ”الدّفاع عن النّفس” في الوقت الذي ترفع فيه شعارات الدفاع عن السّيادة الأوكرانية وحقِّها في اتخاذ أيّ موقف حتى ولو كان ذلك نكرانا لكل تعهدات أوروبا وقيادة الحلف الأطلسي في أمن روسيا وعدم امتداد الحلف شرقا.
لقد أصبح واضحا وجليّا أنّ الأمر لا علاقة له إطلاقا بالسّيادة والسّلامة الترابية، ولكنه فرض الفرعونية والطغيان والاستمرار في الوصاية الأحادية على حياة الشعوب ومقدراتها، هذه الشعوب التي لا تنتمي حضاريا إلى العالم الصهيونومسيحي يجب أن تظل في نظر الغرب مأمورة وتابعة، فإن أبَت كانت موضوع اعتداء تحت أسماء وذرائع شتى.
وخلاصة القول إنّ عالم الأحادية القطبية عالمٌ لا يؤمن بسيادة القانون والعيش المشترك ضمن مبادئ الحق والعدل لأنها لا تؤمن إلا بالقوة فحيث وُجدت وُجد الحق، وحيث غابت استباحت كل الرذائل واستظلت بكل الذرائع بما فيها إزالة الآخر، وقد شبّت على هذا النهج منذ قرون، ومن شبّ على شيء شاب عليه.