غزّة تُعلِّمكم
غزّة تُعلِّمكم
عبد الوهاب دربال
2023/11/06
كشفَتْ محرقة غزّة المجتمعَ الدّوليَ والبشريَّ على حقيقته، وأصبحت معه تساؤلات الناس على الحق، وازدواجية المعايير، ونكران الحقوق الأصيلة للإنسان في الحياة والحرية أقرب إلى الضياع والتيه. ولم يعُد معها أيُّ مجال للاطمئنان إلى معاني المساواة بين البشر على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وألوانهم.
والحقيقة التي فرضت نفسها على الجميع في واقع البشرية اليوم هي أنّ الحق للأقوى.
إنّ قاعدة الحق للأقوى قاعدة استعمارية استئصالية كبرى، تكره المساواة البشرية، وتُعادي قِيم الحق والعدل.
ولمّا كان القانون يصنعُهُ المنتصرُ، قامت الدّول المنتصِرة في الحرب العالمية الثانية على إيجاد شريعة دولية تضمن لها السيطرة والاستغلال والابتزاز، وتبرّر لها الاعتداء باسم القانون وتحت حمايته. وشرعت هذه المجموعة في فرض واقع دولي يَدَّعي الحرية والعدل في الخطاب ولكنه يكرِّس في الواقع ظلماً أسودَ في نكران حقوق شعوب بأكملها، ومن ذلك:
1- ترسيم الحركة الصهيونية -عدوّ الإنسانية- بإنشاء دولة لها على أرض مغتصَبة من أهلها. وعمدت إلى تغطية القطعان الإرهابية الصهيونية المستورَدة من كل بقاع الأرض على إبادة السكان الأصليّين الفلسطينيين وتهجيرهم. ولم نسمع حينها من يتكلم عن محاربة الإرهاب وحماية الإنسان وتكريس حقه في الحياة.
2- استحداث منتظم أممي بآليّة تضمن للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية وحدهم تمرير إرادتهم وسط نفوذهم على بقيه العالم. والدّارسُ لميثاق الأمم المتحدة وهيكلتِها ثمّ بعد ذلك مسارَ قراراتها ومآلات الالتزام بها، يكتشف الزيف الصريح المستتر بقواعد المساواة الجوفاء بين الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها؛ ففي الوقت الذي لا يُعاقَب فيه الصهاينة وحلفاؤهم على التّمرد على كل القرارات والقواعد الدولية، يتم التضييق والحصار بل وحتى محاربة من يتصدى لظلم المنتصرين الذين لهم وحدَهم حق الإلزام بالقرارات.
كيف نفسّر عجز العالم العربي عن نصرة أهل غزّة بأتفه وسائل الإغاثة في الوقت الذي يشاهدون على المباشر مجزرة لم يعرف لها التاريخ مثيلا؟ لقد وصل العالم العربي والإسلامي إلى الدّرك الأسفل من الانحطاط الإنساني والحضاري و برهن مرة أخرى أنّه أدار ظهره كُلّية لكل القيم الحضارية في تاريخه، ولا يمكن أن يوصف إلّا بالخيانة العظمى لله ولرسوله وللمؤمنين.
3- إنّ المجال لا يتّسع لسرد مظاهر هذا الظلم البَيِّن في منظمة الأمم المتحدة وتوابعها بداية من محاربة حركات التحرُّر، هذه الحركات التي تصدّت لهذه الغطرسة ردحا طويلا من الزمن في الخمسينيات والستينيات، لكن منذ أواخر القرن العشرين إلى اليوم وجدت المجموعةُ المسيطِرة على الأمم المتحدة غطاءً جديدا لقمع البشرية المستضعَفة تحت مظلة محاربة الإرهاب. والحقيقة أنّ الإرهاب يتمثل بشكل جذري وأصيل في الاحتلال، وإبادة الشعوب وحرمانها من حقها في الحرية والحياة. كما أنّ الإرهاب يتجلّى في صورته الجديدة بنهب ثروات الشعوب المستضعَفة واستعبادها في خدمة رفاه وعلوية الفئة الباغية المنتصِرة في الحرب العالمية الأخيرة.
4- لقد أسقطت محرقة غزّة وصمود مجاهديها ومقاومتها القناع الخادع لشعارات الحرية والمساواة والإنسانية والديمقراطية التي يتغنّى بها الغرب، وكشفت وجهه الإجرامي القبيح في الاستغلال والاستعباد. كما كشفت محرقة غزّة خوَر العالم العربي والإسلامي وعجزه المحبِط في نصرة الحق وأهله.
الجميع يعرف ويعلم أنّ العالم الإسلامي يمتلك من وسائل القوة ما يجعله قادرا -إن صدق وأراد- أن يفرض وجوده على الساحة الدولية. إنّه يملك أزيد من مليار ونصف مليار من البشر، كما أنّ موقعه الجغرافي يجعله متحكِّما في حركة العالم الأمنية والتجارية، وله من مقدّرات الثروة ما يؤهّله لتبوُّء مكانة لا يمكن تجاوزها في الاقتصاد العالمي، وله من المقوّمات العَقديّة والثقافية عبر التاريخ البشري ما يجعله دون سواه أكثر ضمانا وأمنا لمعاني القِيم الإنسانية في الحرية والمساواة والكرامة البشرية.
إنّ كل هذه المقدّرات والمَكَنات لا تفسِّر عجزه في فرض وجوده ونصرة قضاياه إلّا بفساده السياسي، وتبعية نُخبه وقيادته إلى أعدائه التاريخيين. وإلّا كيف نفسّر مثلا عجز العالم العربي عن نصرة أهل غزّة بأتفه وسائل الإغاثة في الوقت الذي يشاهدون على المباشر مجزرة لم يعرف لها التاريخ مثيلا؟
لقد وصل العالم العربي والإسلامي إلى الدّرك الأسفل من الانحطاط الإنساني والحضاري وبرهن مرة أخرى أنّه أدار ظهره كُلّية لكل القيم الحضارية في تاريخه، ولا يمكن أن يوصف إلّا بالخيانة العظمى لله ولرسوله وللمؤمنين.
إنّ التحجُّج بالواقع الصعب أصبح لا يُقنِع أحدا، ولو تحجّجت حركاتُ التحرر بهذا المنطق لما حقّقت انتصاراتها.
وأعلم، وأنا ابن ثورة المليون شهيد، أنّ المجاهدين الأوائل لم يكن سلاحُ أفضلِهم إلّا بندقية صيد مقابل الدّبابة، لكنّ عزيمتهم وإيمانهم وعدالة قضيّتهم كانت سلاحهم الذي به حققوا النصر، ويبدو أنّ العرب والمسلمين يفتقرون اليوم إلى هذا السلاح على مستوى قراراتهم وتسيير شؤون دولهم وشعوبهم.