هل يتجدَّد الوَعْيُ الحضاريُّ؟
هل يتجدَّد الوَعْيُ الحضاريُّ؟
لمباركية نوّار
2023/11/06
أمَّا سؤالَا البداية، فهما: هل يبلى الوعيُ كما يبلى الإيمان؟ وهل يقبل الوعي التجديد والانبعاث كلما تغيّرت الظروف وتقلّبت المعطيات؟.
من جانب أول، تشكّل أحداث التاريخ الكبرى التي تدور في رحم صيرورته المتواصلة محطاتٌ لاستنطاق وعي الأفراد ووعي المجتمعات. ومن جانب آخر، فإن هذه الأحداث المؤثرة، وفي كل مرة، تمثّل سببا رئيسا في إحداث القطيعة، وهي قطيعة مطابقة للقطيعة الإبستمولوجية التي تطرق إليها الباحث التربوي السويسري الكبير جان بياجي في بناء المعارف، بين وعيين متلاحقين وفي زمنين متعاقبين: وعي آنف مدبَّر يجرُّ أذنابه وسائر في طريق الماضي، ووعي مستأنف مولّي وجهه صوب القادم من الأيام وراسم لمعالم المستقبل بكل ما فيه من تباشير مفرحة أو من محزنات مقرفة.
لا امتراء ولا جدال في أن مفهوم الوعي هو مفهوم ضارب في القدم، ومتعدّد التعريفات وكثيرها، ومع ذلك ما زال يحتفظ بغموضه وباستغلاقه. وتتراوح تعريفاته بين التبسيط والتعقيد. وهو فعلٌ مستبطن ومرتبط بالوظيفة العقلية أساسا مما يجعل منه انعكاسا وترجمة للحالة السائدة من الاستعداد والجاهزية والتهيؤ والتأهب والتشمر، أو من التراجع والاسترخاء والتريث والتقاعس والإهمال.
نصادف في غزوة “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية صورة أخرى ناصعة من صوّر الوعي الجماعي. وهو وعيٌ ناضج ومزلزل يعاكس الوعي الذي أملى قبول المشي في طريق الاستسلام بحثا عن سلام سرابي؛ فقد خلّفت هذه الحادثة المفاجِئة دويا تردَّد صداه في مشارق الأرض ومغاربها، واستطاعت أن تقضي على المقولات الوهمية والتصوّرات الخرافية التي زرعت الذل والهوان، ونثرت الخوف والرعب، وكبّلت الإرادات، ومنها مقولة: (الجيش الذي لا يُقهر).
ينطلق الوعي، دوما، من الفهم والاستيعاب والإلمام بالوضع المعيش بالعالم المحيط وبما يشعّ منه من محرّضات ودوافع أو من مثبّطات ومحبطات. ويستتبع ذلك طريقة التفاعل مع الظروف نفسيا وجسميا، سلبا أو إيجابا، في نشاط أو في تكاسل. ولذا يقبل أن يعرف الوعي في مستوياته الدنيا كما يلي: (هو حالة دراية المرء بمحيطه والاستجابة له). ومن البيّن أن هناك عواملَ متداخلة تتحكم في تسريع بناء الوعي أو في إبطائه، وتُصنع منه مستوياتٌ ودرجات تعلو وتنخفض، وتتغيّر وتتبدّل، وتزيد وتنقص.
أما الوعيُ الحضاري فهو يتعدى وعي الأفراد الذي يتم بكيفيات منفصلة ومنعزلة، وتستلهم محددات المواقف الجماعية من مسببات صناعة التقدم والتفوق والرقي لتثبيت وجود المجتمع أو الأمة بكل مميزاتها ومواصفاتها بعد استجلاء الأفكار التي تصنع الثبات والاستمرارية في المعارك الحضارية. وفي هذا السياق يقول أحد الباحثين: (التقدم الحضاري لدى أي أمة مَدينٌ لشيئين اثنين: الوعي والطاقة الروحية، والتاريخ عبارة عن أحداث متصلة صنعها أناسٌ يملكون روح التضحية والعطاء والمثابرة، ويملكون الشجاعة والقدرة على المخاطرة. وهذه السمات كانت متوفرة عند كثير من الصحابة الكرام، رضي الله عنهم. وقد أطلق النبي، صلى الله عليه وسلم، من خلال الوحي ومن خلال سلوكه الشخصي، طاقة روحية هائلة شكّلت الوقود الأولي والأساسي للإندفاعة الحضارية الأولى للعرب والمسلمين. ولولا تلك الطاقة لما أمكن تشييد حضارة عظيمة).
عندما نطوي المسافات الزمنية لأطوار التاريخ، ونستحضر منازلات الشعب الجزائري مع الاستخراب الفرنسي منذ اللحظة الأولى التي قدِم فيها غازيا لاهثا يبحث على استنزاف خيرات الجزائر، نجدها أنها مرّت بعدة مراحل؛ فقد بدأت بالمقاومة الشعبية التي لم تتوقف لمدة اقتربت من تسعين سنة كاملة. وكانت كلما أطفئت نيران حركة انتفاضية في جهة من الوطن، إلا واشتعلت أخرى في جهة أخرى من دون توقف وبلا هوادة أو مهادنة. وبعدئذ، جاءت مرحلة المقاومة السياسية التي تميزت بالنضال الفكري وفق عدة مقاربات تتطابق فيها الأهداف أحيانا، وتتقاطع في أحايين أخرى بنسب متفاوتة. وقد رضيت الحركاتُ السياسية أن تنشط مستسلمة للقوانين التضييقية التي سطّرها الاستعمار الفرنسي. وهذا يعني أن الوعي الحضاري الذي ساد في المرحلة الأولى يختلف عن نظيره الذي شيّدت عليه قناعات المرحلة الثانية. وأما مؤشر الوعي الحضاري في المرحلة الثالثة التي هيأ وقاد الثورة التحريرية، فقد بلغ حدّا أعظميا من التكوّن، وأخذت طاقته المحرّكة شكلَ العاصفة الهوجاء أو التيار الجارف. وتولد هذا الوعي الحضاري الخالص الأخير من بعد التأكد من مراوغات فرنسا الاستعبادية التي لم تغير من نيّاتها الخبيثة.
لم يعد باستطاعة الشعب الجزائري الرضوخ والإذعان بعد أحداث الثامن ماي 1945م الحزينة والمؤلمة. ولم يُطق قبول العيش في كنف استعمار فاحش وجائر، ولا يعرف لوعوده ذمة ولا عهدا. وشكّل ردُّ فعل الجيش الفرنسي الفظيع بعد أن خرج الجزائريون مطالبين بنيل حريتهم شرارة وعي حاسم وناجم عن صدمة كبرى، فطلّقوا وعيهم السابق، وبنوا وعيا جديدا يؤسِّس لثورة تغييرية جذرية يساهم فيها كل أبناء الجزائر بقضِّهم وقضيضهم. وحلَّ الإدراك المقنع والمحرِّك الذي ينص على أن ما أخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة حتى ولو كانت الطريق صعبة والتكاليف باهظة. وفي اللحظة التي استمع فيها الشعب الجزائر إلى الصوت القادم من أعماق داخله، هبّ في وثبة عظيمة إلى تحقيق تغيير مجرى التاريخ وفق المخطط الذي رسمه وتبنّاه، ولم يحد عنه، واستطاع أن يحقِّق مراده.
تتكرَّر أحداثُ التاريخ، ولكنها تأخذ في العادة صيغا متباينة، فلا تأتي على منوال واحد لأسباب عديدة، لأن لكل لحظة زمنية وقعُها وفعلها وتأثيرها. ومنذ سنوات قريبة، ولمَّا أصبح وجود كيان الأمة الجزائرية مهدَّدا نتيجة التسيب والإهمال، تنبّه إلى حاله، وتفطّن إلى ما يحيط به من مهددات. وأثمرت شجرة الوعي الشمولي في باطنه عن ثمرة حضارية تتناسب مع راهن ظرفه الزمني وتأخذ بمعطياته، واهتدى إلى فعل حَراكي (بفتح حرف الحاء) هادئ لم يَشُبْهُ عنفٌ أو يلطخه اضطراب، واستطاع أن يملأ شوارع كل المدن خلال عدة جمعات بأمواج بشرية منتفضة حتى وضع حدا للتدهور وأنقذ الوطن. وضرب مثالا رائعا في الانضباط الحازم في التمدن السلوكي والالتزام بضوابطه وأحكامه. ونستنتج من ذلك، أن جرعة وطبيعة الوعي الذي استند إليه الجزائريون في حَراكهم المبارَك يختلف عن جرعة وطبيعة الوعي الذي اعتمل في نفوسهم قبيل ثورة أول نوفمبر المباركة وأثناءها.
لم يكن باستطاعة يد المقاومة الفلسطينية الشريفة أن تضرب ضربتها الموجعة في غزوة “طوفان الأقصى” الوصول إلى مأربها المرصود لو لم ينتشر الوعي بدرجته العالية في عقول كل أبناء غزة المحاصَرين. وهذا الوعي هو الذي جعل مخزون صبرهم الفولاذي يصمد أمام رد الفعل العنيف والتخريبي وانقطاع كل ظروف العيش من أكل وشراب وإضاءة وأدوية وأدوات علاج ووسائل تواصل…
لا تعيش الأمم والمجتمعات في أزمنة السلم والحرب إلا على الوعي الذي يثور ويضطرم في بواطن أبنائها وفي دواخلهم، وعلى الدرجة التي بلغها منسوبه سواء بالتراكم أو بالتجديد. ونصادف في غزوة “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية صورة أخرى ناصعة من صوّر الوعي الجماعي. وهو وعيٌ ناضج ومزلزل يعاكس الوعي الذي أملى قبول المشي في طريق الاستسلام بحثا عن سلام سرابي؛ فقد خلّفت هذه الحادثة المفاجِئة دويا تردَّد صداه في مشارق الأرض ومغاربها، واستطاعت أن تقضي على المقولات الوهمية والتصوّرات الخرافية التي زرعت الذل والهوان، ونثرت الخوف والرعب، وكبّلت الإرادات، ومنها مقولة: (الجيش الذي لا يُقهر). وتمكّنت من تعرية الوعي المزيف الذي لا يتجاوز أصحابه ودعاته النضال بالكلام والاستكانة والإذلال والاستجابة الطوعية لمطالب العدو.
لم يكن باستطاعة يد المقاومة الفلسطينية الشريفة أن تضرب ضربتها الموجعة في غزوة “طوفان الأقصى” الوصول إلى مأربها المرصود لو لم ينتشر الوعي بدرجته العالية في عقول كل أبناء غزة المحاصَرين. وهذا الوعي هو الذي جعل مخزون صبرهم الفولاذي يصمد أمام رد الفعل العنيف والتخريبي وانقطاع كل ظروف العيش من أكل وشراب وإضاءة وأدوية وأدوات علاج ووسائل تواصل… وهو الوعي الذي نقرأه مجسَّدا في صورة صغرى يبرزها تصرّفُ صحافي الجزيرة وائل الدحدوح الذي فقد زوجته وابنه وابنته وحفيده، ولكنه صمد أمام المصيبة، وتقدّم المشيِّعين في صلاة الجنازة عليهم، وعاد إلى عمله بعد سويعات قليلة بعد أن أتم مراسيم توديع من فقد من أهله ودفنِهم.
تُعدّ اللحظة التي يبلغ فيها الوعيُ ذروتَه القصوى نقطةً فاصلة، وحينها يتحرك القلم لتدوين تاريخ الأشخاص من خلال مواقفهم. وينقلب السوء والعار والشنآن على المنتكسين ومطأطئ رؤوسهم خوفا أو جبنا. وهي لحظة للفرز والتصنيف والسقوط من ثقوب غربال التنخيل وخاصة بين جموع النخب. وهؤلاء الساقطون المنسلخون موجودون في كل زمن. وفي الوقت الذي جدّد فيه الشعبُ الجزائري مناصرته للمقاومة الباسلة في دك أعشاش الكيان الغاصب وتجريعه مرارة الهزيمة، نجد من يخالفه الموقف، ومنهم الروائي: بوعلام صنصال الذي زار إسرائيل في سنة 2012م، وارتدى الطاقية اليهودية.
وتجرّأ على الكتابة مؤخرا بلا حياء في مجلة “ماريان” الفرنسية، قائلا: (هل كان محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، على عِلم بمخطط حماس؟ هل حاول منعه؟ هل أبلغ الحكومة الإسرائيلية عن الاستعدادات؟ لماذا دعمت إيران، التي تشارك في مشاريع ضخمة في إطار التكوين الجيوسياسي الجديد الذي رسمته مجموعة بريكس، خطة حماس الإجرامية؟ لماذا يظل الفلسطينيون، وخاصة سكان غزة، سلبيين؟ لماذا لا يثورون ضد حماس وأجهزة السلطة الفلسطينية الفاسدة التي تحكمهم؟ متى سيأخذون مصيرهم بأيديهم ويتوقفون عن الاعتماد على الحكومات العربية التي تستخدمهم كأدوات ضغط في سياستها الخارجية أو شعارات في مطابخها الداخلية لقمع شعوبها؟
ولم يختلف موقف الروائيين كمال داود ومحمد مولسهول الذي يمضي كتاباته باسم زوجته ياسمينة خضرا عن موقف من سبق ذكره. وإلى جانبهم، يقف عميد مسجد باريس شمس الدين حفيز (أو حفيظ). وربما يوجد لهم نظراء حدّثوا أنفسهم حديث الخائفين في همس ومن وراء الجُدر المصمتة.
لا يشكِّل هؤلاء الموتورون وأمثالُهم شيئا ذا قيمة في التقليل من نفير القوافل الواعية بقضيتنا الأولى، وهي قضية فلسطين. ومن يبصر أن فئات الأجيال الشابة هي من صنعت الحدث يوم نادى المنادي للخروج والسير في شوارع مدننا مناصرين لأشقائنا، يدرك أن توريث وعينا الحضاري يشقُّ طريقه الصحيح، وأن توريثه ذاهبٌ إلى أيد أمينة. ويدرك أيضا، أنَّ الوعي الحضاري للشعوب الحية ينمو بالمراكمة، ويتنامى بالتجديد من خلال الطفرات الكبرى التي يجود بها الزمن.