الفلسطينيون وثورة التحرير الجزائرية
الرأي
الفلسطينيون وثورة التحرير الجزائرية
بقلم: د. أحمد شنتي
2023/11/01
احتلت الثورة التحريرية حيزا من اهتمام العرب والمسلمين، حيث أحيا زخمها عزائمهم، فهبوا جميعا لدعمها ومناصرتها، وكان من أكثر العرب احتفاء بالثورة الجزائرية الفلسطينيون، فرغم النكبة التي حلت بهم لم يفرطوا في دعمها، سواء بالتبرع والاكتتاب أو تنظيم المهرجانات والمظاهرات، فقد ذكر صلاح خلف “أبو إياد” أن الفلسطينيين شكلوا “لجنة معونة للثورة الجزائرية”.
وفي هذا الاطار طلب من تلاميذ الثانوية التي يشتعل بالتدريس بها، طلب منهم المساهمة كل حسب إمكانياته «فكانوا ان استجابوا جميعا للنداء برغم بؤسهم، في غداة اليوم التالي، راحوا يمرون بالتتابع أمام مكتبه، فيضع عليه البعض قرشا والبعض الآخر قرشين أو ثلاثة، وهي ان كانت مبالغ زهيدة إلا أنها تمثل تضحيات كبرى من جانبهم، وأخيرا قد جاء صبي حدث وهو بادي الانزعاج ليضع قميصه الذي لا يملك سواه… واكتفي بان قال: لعله يفيد طفلا جزائريا»
ويذكر توفيق المدني في مذكراته انه تلقى في بداية الثورة إعانة مالية قدرها مائتي جنيه مصري من مفتي القدس “أمين الحسيني”، فسلمها بدوره إلى محمد خيذر.
كما يتذكر عكرمة صبري “خطيب المسجد الأقصى كيف ان «أمه أعطته نقودا ليشتري لها طعاما، لكنه تبرع بالنقود جميعا للثورة الجزائرية، وقد فرحت به أمه وأكبرت فيه صنيعه».
أما الطلبة الجزائريون في القدس ونابلس، فقد هبت عليهم نسائم الثورة بالتكريم والاحتفاء من قبل اخوانهم الفلسطينيين، حيث يذكر سعدي بزيان الإعلامي الجزائري، وأحد الطلبة الجزائريين الاربع بالثانوية الابراهيمية بالقدس أثناء الثورة التحريرية؛ كيف غيرت الثورة أحوالهم فيقول: « كانت لهم مشاعر خاصة ومرهفة تجاه الجزائر والجزائريين، خاصة في تلك الفترة التي كانت فيها الثورة التحريرية مشتعلة، فلقد قدم أهل القدس للطلبة الجزائريين الدعم المالي والمعنوي وتبرعوا لهم بالمسكن والملبس والطعام وفضلوهم على أبنائهم إلى درجة أن الجزائريين لم يكونوا يسكنون مع زملائهم من الطلبة بل كان يتم إسكانهم في مساكن الأساتذة».
ويتذكر سعدي موقف مدير ثانوية “النجاح” (أصبحت فيما بعد جامعة النجاح) الذي رفض أخذ تكاليف التسجيل والدراسة من مندوب الجزائر لما علم أن الأمر يتعلق بطلبة جزائريين تضامنا مع الثورة آنذاك وقد بلغ حد الاهتمام بالجزائريين درجة أن أصحاب الحافلات رفضوا أخذ الأجرة من هؤلاء الطلبة بمجرد أن علموا أنهم جزائريون وهذا على مدار العام.
ولم يكتف الفلسطينيون بالدعم المالي، فقد استطاع بعض المتطوعين الوصول الى جبهات المواجهة بالجزائر؛ وشاركوا كأطباء أو مساعدين أو مقاتلين، ويذكر المجاهدون عددا من أسماء الأشقاء الذين شاركوا معهم جنبا الى جنب في جبهات القتال ضد الاستعمار الفرنسي.
اندلاع ثورة نوفمبر وآثرها على القضية الفلسطينية
شهد التاريخ الحديث والمعاصر عددا من الثورات، عالمية التأثير بسبب ما أحدثته من تغيير في أوضاع البلدان التي اندلعت فيها والبلدان الأخرى خارج حدودها، ومعلوم أن الأحداث التاريخية تقاس بمدى ما تحدثه من تأثير وتغيير في الأوضاع المحلية والعالمية.
غير أن الثورة الجزائرية لها ميزات وخصائص تُميزها عن كثير من الثورات وتجعلها أعظم منها، وأبلغ تأثيرا وذلك لكونها كانت ثورة مسلحة ضد سلطة استعمارية شرسة حكمت البلاد بصورة مباشرة طوال قرن وثلث القرن، وكانت ثورة ضد روح التشكيك التي زرعتها هذه السلطة الاستعمارية خلال هذه الفترة الطويلة كذلك، وجعلت الشعب الجزائري يرى تاريخه الطويل الزاخر بالأمجاد والبطولات شبحا وخيالا، وكانت ثورة نموذجية أيقظت كثير من الشعوب المكلومة وحفزتها للمطالبة بحقوقها كاملة غير منقوصة.
إن أخطر شيء عاناه الشعب الجزائري طيلة 132 سنة من الاستعمار الفرنسي هو حالة التشكيك في أصله وماضيه وفي شخصيته الوطنية والقومية، وعندما قامت ثورة نوفمبر 1954 أعادت الثقة للشعب الجزائري بنفسه وأكدت أصالته التاريخية والحضارية، وعودة الثقة هذه هي الحجر الأساس لأي مشروع تحرري.
وقبل نجاح التجربة الجزائرية كانت كثير من الشعوب التي عانت من ضيم المستدمر قد فقدت الثقة في نفسها، وعجزت عن فعل أي شيء، فكثير من هذه الشعوب اختارت مرغمة الذوبان في الغيرـ فالمغلوب مولع بإتباع الغالب كما يقول ابن خلدون ـ، ومن ضمن هذه الشعوب الهنود الحمر بأمريكا الشمالية والجنوبية وسكان أستراليا، ومعظم أرخبيلات المحيطين الهادي والهندي وفي الأطلسي، الذين مسختهم المجتمعات الأوربية الغازية واجتثت هويتهم، فأصبحوا تبعا لها، وهذا ما حدث تقريبا لشعب جنوب إفريقيا حيث مارست الأقلية البيضاء سياسة التمييز العنصري “الابارتيد” في إطار سياسة القضاء على السكان الوطنيين بمختلف الوسائل.
لقد استمر العرب والمسلمون لعدة سنوات، وهم لا يجرؤون على رفع رؤوسهم أمام قوى الطغيان والإمبريالية وجبروت الغطرسة الممارسة ضدهم مشرقا ومغربا، وجاءت نكبة 1948 لتزيد الأمور سوءا؛ فكانت الثورة الجزائرية أول رد فعل حقيقي عليها.
ولقد كان انتصار الثورة الجزائرية ضربة قاسية لقوى الاستعمار والإمبريالية في العالم، فلم يكن أحد يتوقع أن يأتي يوم يرى فيه هذا الشعب الذي لم يتعرض شعب في العالم لما تعرض له هو من مسح لعقيدته ومحو لأصالته ومحاولة الإتيان على ما تبقى من هويته، لم يتوقع أحد أن يرى هذا الشعب نور الحرية وأن يقهر فرنسا ذات الحول والقوة.
وقد أنجزت الأمة معجزتها هذه بمجموعة من الشباب صمم أن يهرق دمه على أرض الحرية وأن لا يرضى بالدنية، والمتتبع لانطلاق الثورة الجزائرية ليجد أن هذه الثورة، هي ثورة معّلِمة، هي بحق ثورة المعجزات، فعدد الثوار الذي فجروا هذه الثورة ليلة الفاتح نوفمبر لم يكن يتجاوز الأربعمائة وقد ارتفع هذا العدد عشية انتفاضة العشرين أوت 1955 إلى حوالي أربعة آلاف، ورغم هذا التزايد ورغم أهميته، فإنه لم يكن كافيا لأن الأسلحة لم تكن متوفرة لا نوعا ولا كما، ناهيك عن الذخيرة وسائر معدات الحرب.
فهل يستطيع شعب بهذه الإمكانيات البسيطة والعوائق الجمة ان يواجه قوة إمبريالية متغطرسة متعطشة للدماء، شحذت قواتها واستعانت بأحلافها، وهل بإمكان الثوار الجزائريين ان يواجهوا قرابة المليون جندي فرنسي مدججين بالأسلحة والمعدات تعج بهم ربوع الجزائر.
لقد استطاعت هذه الثورة ان تسقط هذا الفرق في ميزان القوة من معادلة الشعوب المستضعفة في وقوفها ضد قوى الطغيان والإمبريالية وهذا ما صدح به الكثير من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، يقول صلاح خلف «أبو إياد» احد مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني ــ فتح ــ أن: «حرب العصابات التي اندلعت في الجزائر قبل تأسيس فتح بخمس سنوات قد إفادتنا إفادة عميقة. كنا مأخوذين بسيرة الوطنيين الجزائريين الذين استطاعوا أن يشكلوا جبهة صلبة وان يخوضوا المعركة ضد جيش دولي يفوق جيشهم ألف مرة، وان يحصلوا على معونة متعددة الأشكال من مختلف البلدان العربية التي كانت في بعض الأحيان تنتمي إلى معسكرات متناحرة، وان يفلحوا في الوقت نفسه في عدم الخضوع بالتبعية لأي منها، فكانوا رمزا، إذا صح القول، للنجاح الذي كنا نحلم به».
والمتتبع لمسار حركات التحرر في المشرق العربي قبل قيام الثورة الجزائرية، وبالضبط بعد فترة الحرب العالمية الثانية يجد أن العرب اتجهوا إلى وسائل الضغط عن طريق الاحتجاجات والمظاهرات مستغلين في ذلك التغير النسبي في ميزان القوى لصالح قوى صاعدة على حساب فرنسا وبريطانيا وذلك في محاولة منهم لتحقيق استقلالهم تنفيذا لمبادئ الأمم المتحدة.
وكان يعيب هذا الاستقلال المنقوص ـ المأخوذ بالطرق السلمية ـ القيود الظاهرة والخفية المتمثلة في المعاهدات والأحلاف وفي سيادة نوع من النفوذ الغربي وفي هذه الظروف العربية والعالمية، وبعدما دخلت الدول العربية فيما بينها في “حرب باردة عربية” من مزايدات ومن تبادل للتهم، وصلت مشكلة فلسطين الى ما اطلق عليه “المشكلة المستعصية الحل” وأصبح الأمل هو ان تتحرر الأمة العربية وتندمج، وتقوى يوما ما على تحرير فلسطين “فالوحدة طريق التحرير”، ولكن مشكلة فلسطين وحيوية شعبها بذاته اصبح يحوطه الغموض واليأس، وأصبح الشعب الفلسطيني يعول على الدول العربية المتحررة لكي تقوم بواجبها في الدفاع عن الفلسطينيين وإخراجهم من ربقة الاستعمار في وقت طفا فيه مد القومية العربية على الساحة.
وقد خامر الشعب الفلسطيني في هذه الفترة، نوع من الاتكال بان دعنا نأكل لقمة العيش ويوما ما عندما يتحرر العرب فقد يتمكنون من محاربة الصهيونية، ظلت هذه الفكرة مسيطرة على شريحة كبيرة من أذهان العرب والفلسطينيين إلى أن جاءت الثورة الجزائرية التي كانت بمثابة الصدمة التي أيقظت الشعب الفلسطيني من غفوته، فزرعت فيه الأمل من جديد، فكان العمل المسلح الذي باشرته حركة “فتح” مطلع 1965، وهنا الرابطة الحيوية العضوية بين ثورة الجزائر وقضية فلسطين، وقد عبر صلاح خلف عن هذا بقوله: « بدأنا الالتفات خلال هذه الفترة التي أثارت فينا من الإحباط اكثر ما أثارت من الرضى بالتطلع إلى مشروع كان يبدوا لنا حتى الساعة ـ قبل قيام الثورة الجزائرية ـ من قبيل الأحلام فالوطنيون الجزائريون كانوا قد شكلوا منظمة تخوض الصراع ضد الجيش الفرنسي منذ سنتين، فكانت المعركة البطولية التي كنا نتابعها عن كثب، تذهلنا وتملأ نفوسنا إعجابا، وطوال سهرات طويلة كنا نطرح على أنفسنا مسألة ما اذا لم يكن في وسعنا نحن كذلك أن ننشئ حركة واسعة تكون ضربا من الجبهة التي تضم الفلسطينيين من جميع الاتجاهات… بغرض إشعال الكفاح المسلح في فلسطين».
وحين تم إعلان استقلال الجزائر بعد ثورة تواصلت نحو ثماني سنوات، قدم فيها شعب الجزائر أمثولة هزت العالم أجمع، وشكلت مفصلا في تاريخ شعوب آسيا وإفريقيا خاصة «إذ بدا أن هذا الشعب العظيم بنضاله وصموده قد وضع النهاية الحاسمة لواحدة من أهم وأخطر تجارب الاستعمار الاستيطاني وأن يحمل فرنسا على التسليم بهزيمة مشروع استعماري بلغ مائة واثنين وثلاثين عاما، تواصلت خلالها محاولات طمس الهوية القومية للجزائر، وتشويه موروثها الثقافي العربي الإسلامي من أجل تأصيل تبعيتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وذلك على الرغم من الخلل الفادح في ميزان القدرات والأدوار فيما بين فرنسا ذات التاريخ الإمبراطوري وأحد أهم عمد حلف الأطلسي وبين أحد شعوب العالم الثالث، التي عملت فرنسا جاهدة لدفعة نحو التخلف والضعف».
وقد ظهرت في الثورة الجزائرية قدوة جديدة ـ لم تستفد منها الحركة الوطنية الفلسطينية ـ وهي العمل رغم الخلاف والإرادة رغم التفكك(75)، فرغم الاختلاف في وجهات النظر بين الجزائريين، وبرغم كل عمليات اغتيال وتصفية رفاق الدرب ومسلسل محاولات التآمر الداخلية والخارجية إلا ان قادة الثورة الجزائرية أبقت صراعات القادة منضبطة ضمن حدود وحدة الصف طوال سنوات الكفاح، ولم تدخل الثورة في معارك هامشية تؤثر سلبا على مسار الثورة بشكل عام.
قامت الثورة الجزائرية على أساس الواقعية الثورية وهي تطور جديد على صعيد حركات التحرر، وهو ما استفادت منه الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد لجأت قيادة الثورة الجزائرية إلى الاعتماد على النفس في ظل الحصار العسكري الذي فرضته فرنسا على الحدود الشرقية والغربية، ورفعت شعار الاعتماد على النفس وراحت تأمر بمضاعفة الجهود في مجال صنع المتفجرات من جهة ومن جهة أخرى رفعت شعار “سلاحنا نفتكه من عدونا ” وهو شعار أتى نتائج إيجابية معتبرة وهذا ما جعل الفلسطينيين يسقطون من حسابهم ان الصهيونية تؤيدها قوى الاستعمار والإمبريالية أو أن الصهيونيين اشد ضراوة من المعمرين الفرنسيين، لأنها أحاطت المستعمرين الصهيونيين بنوع من الرؤية الفكرية فأما ان يبقوا في إسرائيل أو لا وطن لهم، بل يجب النهوض بالمستطاع والمتاح، ومناجزة المستدمر وهذا ما أدى إلى نجاح التجربة الجزائرية.
لقد وجد العديد من شباب فلسطين المتحمس ـ وعلى اختلاف مشاربهم الفكرية ـ والذي وقع في “الإشكالية مستعصية الحل” في انتصار التجربة الجزائرية، وتصفية اقدم تجربة استيطانية في الوطن العربي، وجد المثال الملهم والنموذج الحسن للاقتداء إذ شهد عام 1963 تشكل عشرات الخلايا والتنظيمات الشبانية التي رفعت شعارات التحرير والعودة، واعتماد الكفاح المسلح كخيار استراتيجي وبالاعتماد على القدرات الذاتية المعززة بالدعم العربي الرسمي والشعبي.