كيف عرفتُ فكر الأستاذ ابن نبي؟
يظنُ بعض السفهاء منّا ومن غيرنا أن الجزائر بلد “عقيم”، لم يلد علماء، ولم ينجِب مفكرين وأدباء.. وهذا إما لجهلهم أو “احتقارهم لسلعة بلادهم” كما يقول شيخنا أحمد حماني.
كما أن ظنهم هذا هو سوء ظن بالله- عز وجل- حيث يُفْهمُ من ظنهم أن الله لم يهب لنا ما وهبه لغيرنا من العقل المنتج للثقافة وللعلم وللآداب، والله- سبحانه- يقول في كتابه الكريم: “كُلاًّ نُمِدُ هَؤلاءِ وهَؤلاء من عطاءِ ربّك”. ولكن أهل النُهى يعلمون أننا بشرٌ ممن خلق الله، وأعطانا ما أعطى لغيرنا. وقد كان الإمام ابن باديس يرددُ قوله: “طِينَة الجزائري طِينَةُ علم وذكاء إذا واتَتْها الظروف”، وما أجمل قول بلبل الجزائر الصداح محمد العيد آل خليفة:
إنّ الجزائر لم تزل في نسلها أمًّا ولودًا خِصْبَةَ الأرحَام
إن أحد هؤلاء الذين أنجبتهم هذه الأم- مُنْجِبةُ الغُرِّ الميامين في كل الميادين- هو الأستاذ الكبير، مالك ابن نبي، الذي تحُلُّ في هذه الأيام الذكرى الخمسون لوفاته.
قرأتُ اسم الأستاذ ابن نبي أول مرة في أحد أيام عام 1964، عندما اشتريتُ كتابا عن الشهيد “عميروش” لأستاذي محمد الصالح الصديق، وكانت مقدمتهُ بقلم الأستاذ ابن نبي، التي لاحظتُ أنها كانت مترجمة بقلم أستاذ لم أعرفه إلى حدّ الآن، رغم كثرة سُؤلِي عنه، إنه الأستاذ الطيب الشريف.
وخطّتِ الأقدار في صحيفتي أن ألتحق بدولة الكويت الشقيقة في بداية العام الدراسي 1966-1967، مستفيدا من منحة قدمتها للجزائر هذه الدولة الصغيرة في مساحتها الكبيرة بشعبها وأخلاقها العربية الإسلامية.
وفي ربيع عام 1967، زار الأستاذ ابن نبي الكويت بدعوة من دولتها لإلقاء محاضرات، وقد زارنا في ثانوية الشويخ والتقى الطلبة الجزائريين فيها، ولستُ أدري إن كان قد زار الطلبة الجزائريين (في الكلية الصناعية) و(دار المعلمين)، والطالبات الجزائريات في دار المعلمات.
صافحنا الأستاذ ابن نبي، وتجاذب أطراف الحديث مع بعضنا حَاثًّا إيانا على الاجتهاد في طلب العلم الذي حرمتنا منه فرنسا المجرمة في وطننا.
لفت انتباهي أن سائق السيارة التي كان يستقلها الأستاذ هو مدير ثانويتنا، وهو كويتيٌّ، ورأيتهُ يُسْرِعُ لفتح الباب للأستاذ عند نزوله وإغلاقه عند ركوبه، لأن بعض الكويتيين وكثيرا من المُترفين ممّن ينطبقُ على سلوكهم قوله تعالى: “إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”، فقلتُ في نفسي: ما كان لهذا المدير الكويتي أن يتصرّف هذا التصرف لو كان ابن نبي شخصا عاديا.
أُبْلِغْنا أن الأستاذ ابن نبي سَيُلْقي محاضرة في إحدى دور السينما بوسط مدينة الكويت، وأُخْبِرنا أن عددا من الكراسي في هذه القاعة قد حُجِزَ للطلبة الجزائريين.
حضرنا المحاضرة التي لم أفهم منها إلا قليلا، فاتهمتُ- غرورا مني- الأستاذ، ولكنني رأيتُ عِلْيَةَ القومِ من مثقفي الكويت والمقيمين فيها معجبين كثيرا بالمحاضرة وبالمحاضر، فاتهمتُ حَصَاتِي كما يقول الشاعر حافظ إبراهيم.
كان موضوع المحاضرة- كما فهمتُ في ما بعد- هو “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” التي تحوّلت إلى كتاب في ما بعد.
كان الحضور كبيرا، بحيث لم يبق مكان شاغر في قاعة السينما على رحابتها، وكان الحضور متنوعا وذا نوعية، (وزراء، مديرين، أساتذة…) كنّا نرى أكثرهم على شاشة التلفزيون الكويتي، وعلى صفحات الجرائد والمجلات الكويتية، ونسمعهم عبر إذاعة الكويت، وقد لاحظتُ اهتمام الحضور وتفاعله مع المحاضرة، فسألوا المحاضِر وعلقوا على المحاضرة وناقشوا بعض ما جاء فيها ولكنني لم أفقه آنذاك أكثر ما قيل فيها.
لاحظتُ أن وزير التربية الكويتي، وأظنُّ أن اسمهُ “خالد المسعود” غادر قاعة السينما بعد انتهاء المحاضرة، وبينما كان كثير من الحضور ملتفا حول الأستاذ ابن نبي إذا بالسيد الوزير يعود ويقول للأستاذ ابن نبي: غدا سأسافر إلى خارج الكويت ولا أستطيع توديعك في المطار فاسمح لي أن أودعك هنا، فاستيقنتُ أن الرجل ذو مكانة.
وبعد مدة قليلة، عثرتُ في مكتبة الثانوية على كتابٍ عنوانه “الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا” لمؤلفه الأستاذ أنور الجندي الذي كان اسمه آنذاك مِلْءَ الأسماع، وكان من بين من تحدث عنهم بإعجاب الأستاذ ابن نبي، ومما لفت فكري وانتباهي تعريف الأستاذ ابن نبي لعناصر الحضارة وهي: الإنسان والوقت والتراب..
وعندما عدتُ إلى الجزائر في عطلة الصيف، حدثتُ أصدقائي عن هذا الأستاذ وعمّا كتبتْ عنه الصحف الكويتية، وبعد يومين أو ثلاثة أرسل إلي الأخ عز الدين هلّة مع أخيه الصغير مراد كتابا للأستاذ ابن نبي عنوانه “آفاق جزائرية”، وهو عبارة عن ثلاث محاضرات ألقاها الأستاذ ابن نبي عن الحضارة والثقافة والمفهومية، وأرسل إلي هذا الصديق- المقيم الآن في مدينة وهران- مع الكتاب وُرَيْقَة نصها: “إن فهمت شيئا مما في هذا الكتاب فهو هدية لك”. ورغم أنني لم أفهم إلا قليلا فقد احتفظتُ بالكتاب.
وفي العام الدراسي 1969-1970 دخلتُ جامعة الجزائر، وكنتُ فيها كَفَتَى المتنبي في شِعْبِ بُوانْ (غريب الوجه واليد واللسان)، لأن الجامعة آنذاك كانت كقطعة من فرنسا لغة وفكرا وسلوكا، إلا بعض الأقسام تضم أصحاب اللسان العربي وأساتذتهم ومساحة صغيرة منزوية تسمى “مسجد الطلبة”، الذي يرجع إليه الفضل في ما عُرِفَ بعد باسم “الصحوة الإسلامية”، التي سَطَا عليها بعض الذين (يراءون الناس) و(يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا).
كان ممن يتردد علينا في ذلك “المُسَيْجِدِ” الصغير مساحة “الجامع” فكرا وثقافة الأستاذ ابن نبي الذي أشهدُ أن أفكاره كانت هي “سلاحي” وسلاح من هم على ملتي واعتقادي في مواجهة الفكر التغريبي يمينه وشِماله على السواء، خاصة أننا بدأنا نستوعبُ بشكل أكبر وأوفر أفكار الأستاذ ابن نبي، ويساعدنا في ذلك الأستاذ عبد الوهاب حمودة- رحمه الله- والأستاذ رشيد بن عيسى، متعه الله بالصحة والعافية.
كان الأستاذ ابن نبي يسكن في شارع فرانكلين روزفلت، وكنتُ أسكنُ في شارع الشهيد أمحمد بوقرة غير بعيد عن مسكن الأستاذ ابن نبي، وكثيرا ما كنتُ أراه يتفسّحُ في حديقة الحرية القريبة من مسكنه، فكنتُ أسيرُ خلفه، وأختلسُ النظر إليه، وأراقبه عندما يستريح على مقاعد الحديقة، كل ذلك إعجابا مني به وإن لم أزل غير مُستوعبٍ لأفكاره كلها.
وبدأتُ أسعى للحصول على كُتبه، وقد استغرق ذلك مني وقتا طويلا، وقد نسختُ كتابين من كتبه أعارهما لي زميلي الأستاذ سالم شريقي- متعه الله بالصحة والعافية- اشتراهما من القاهرة.
آخر محاضرتين حضرتهما للأستاذ ابن نبي هما: “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ورسالته”، وقد ألقاها علينا في مسجد الطلبة، وقد كنتُ قريبا منه فلاحظتُ جبينه يتصفّدُ عرقا رغم برودة الجو.
وأما المحاضرة الثانية، فكانت تحت عنوان “الإيديولوجيا والعمل”، وقد ألقاها على الضباط والطلبة الضباط الاحتياطيين في المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال، وكنتُ أحدهم في إطار أداء واجب الخدمة الوطنية، وذلك في أوائل ربيع 1973، وقد نشرت المحاضرة في العددين الأول والثاني من مجلة المدرسة.
لم أحضُر جنازة الأستاذ ابن نبي، لأنني كنتُ ضابطا احتياطيا في مدرسة تكوين ضباط الاحتياط بمدينة البليدة، وكنا في حالة طوارئ، بسبب حرب أكتوبر 1973، وقد طلبنا رخصة لحضور جنازة الأستاذ فلم يُؤذن لنا بسبب تلك الطوارئ.
بعد انتهائي من أداء الخدمة الوطنية، عملتُ في الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وهي المحتكرة- قانونا- لاستيراد الكتب من الخارج، وقد عملتُ مع الأخ عبد القادر معذوري- رحمه الله- لاستيراد كمية هامة من كتب الأستاذ ابن نبي، ولكن الراصدين لفكره وللفكر الحي عموما كانوا يقللون من الكميات التي نطلبها، كما يضخمون الكتب “الحمراء”، ولكن الزبد يذهب جفاء، ويبقى ما ينفع الناس، وقد تنبأ الأستاذ مالك ابن نبي في محاضرته (دور المسلم…) بزوال ذلك الفكر الأحمر.
في عام 1976 التقيتُ في لندن الدكتور مايكل بريت، وكان مستشرقا، ويدرِّس تاريخ الجزائر المعاصر، كما كانت زوجته تدرِّس “هجرة بني هلال” من صعيد مصر إلى شمال إفريقيا، وقد فاجأني الدكتور بهذا السؤال: لماذا يُغيَّبُ فكرُ مالك ابن نبي في الجزائر؟ بلعتُ لساني- كما يقال- ولم أشأ أن أقول ما كنتُ مقتنعا به من حرب فكر الأستاذ ابن نبي، والمثل العربي يقول: “أنفك منك وإن كان أجدع”، أو “أنفك منك وإن كان أَذَنَّ”، والأنف الأذنُّ هو الذي يسيل مُخاطُهُ، وهو معيبٌ، والدليل على هذه الحرب لأفكار الأستاذ ابن نبي عدم وجود أي جامعة أو مدرسة عليا أو معهد وطني يحمل اسمه، رغم أن بعض التقدميين في الجزائر حاولوا “سرقة” ابن نبي فأقاموا ندوة بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته تحت عنوان “ابن نبي كان اشتراكيا”، وقد رددتُ على ذلك بمقال تحت عنوان “ما كان مالك ابن نبي اشتراكيا ولا تقدميا ولكن كان حنيفا مسلما”، وقد نشر في “الشروق الأسبوعي”.
صِرتُ بعد اطلاعي على كثير من الأمور لستُ موافقا للأستاذ ابن نبي في بعض أحكامه على أشخاص أو وقائع في تاريخنا المعاصر، فمالك ابن نبي- على فضله وفكره- هو إنسان، والإنسان كما جاء في حديث من لا ينطق عن الهوى “خطاء” وكما قال “القديس” أغسطين: “أنا أخطئ إذن أنا موجود”. (الموسوعة الفلسفية المختصرة. ص 75)
وننتظرُ من وزارة الداخلية أن توافق على طلب إنشاء مؤسسة مالك ابن نبي الذي ضربت عليه العنكبوت بنسجها.
الرأي