فضاءات بشار

بشار

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
ابو زكرياء ابراهيم
مسجــل منــــذ: 2010-10-15
مجموع النقط: 1768.2
إعلانات


ذكريات لا تنسى

ذكريات لا تنسى

محمد سعيد مولاي

2023/10/29

أول مرة عرفت فيها مالك بن نبي رحمه الله، كان ذلك في أثناء السنة الدراسية 1967-68 بثانوية عمارة رشيد (ابن عكنون)، التي كانت تتميز بتدريس المواد العلمية والحضارة الغربية إلى جانب مادة الأدب العربي والحضارة الإسلامية، وقد تأسست في عهد الاستعمار لتكوين إطارات مزدوجة اللغة وتدعى بالثانوية الإفرنجية-الإسلامية،على غرار ثانوية رضا حوحو بقسنطينة وثانوية تلمسان.
وكنت أنذاك في القسم النهائي نتأهب للترشح إلى شهادة البكلوريا، وكان علينا من حين لآخر نطالب بحضور أنشطة ثقافية متنوعة لإثراء معلوماتنا العامة في شتى المجالات إلى جانب الدروس المعتادة والمقررة.
وقبل مجيء مالك بن نبي ببضع أسابيع، أتانا الشيخ متولي الشعراوي الذي كان على رأس بعثة من علماء مصر، فألقى ضمن تلك الأنشطة محاضرة فذة من نوعها تركت فينا بصمات لا تزال راسخة في أذهاننا، حيث وجدنا فيها تناغما عجيبا بين بلاغة الأدب العربي الرفيع الذي كنا ننهل منه في القسم العربي، وبين سحر بيان المنطق العقلاني الذي كان يسود الدروس العلمية في القسم الفرنسي.
ويوم أقبل مالك بن نبي إلى الثانوية، كانت قاعة المحاضرات مكتظة بتلاميذ الأقسام النهائية كلها مع الأساتذة الكرام، وكنا في صمت رهيب لا تسمع إلا همسا، نترقب حضور المفكر الجزائري الذي لم نسمع به من ذي قبل.
ونحن على هذا الحال، إذا برجل يدخل إلى القاعة من خلفها، سوي القامة، أنيق الملبس، ثابت الخطى، بصحبته مدير الثانوية وفتى آخر على شفتيه ابتسامة وفي عينيه إشراقة كأنه يقود الوفد إلى مقدمة القاعة، فاتخذ المدير مجلسا بين الأساتذة في الأمام، بينما صعد إلى المنصة ذلك الرجل الأنيق مع الفتى.
وشرع هذا الأخير يتحدث إلينا، فقال بعد حمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة والسلام على رسول الله، وبعد شكر المؤسسة على الدعوة والاستضافة، وإلقاء السلام على الحضور: “أبنائي الأعزاء، يسرني أن أقدم إليكم المفكر الجزائري، عالم في علم الاجتماع الإسلامي”، وما كاد ينطق بكلمة “إسلامي” حتى تفاجأنا جميعا بيد الرجل توقف الفتى فورا ويقول بحزم وصرامة قبل أي كلام: “لا، لا يوجد علم اجتماع إسلامي، وإنما هو علم الاجتماع وكفي”.
هكذا كانت بداية المحاضرة، لا نفقه كثيرا مما جرى، وبقي ذلك الحدث راسخا في الأذهان، وهكذا تلقينا منذ البداية درسا لا ينسى بأن العلم لا لون له، يدركه ويكتشفه المسلم وغير المسلم على حد سواء، لأنه من الله والله يحيط بعلمه من يشاء، وقوله تعالى في ذلك أوضح وأجلّ: “وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ” (البقرة ،255)، وكذلك قوله عز وجل: “كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا” (الإسراء، 20).
أما الفتى فهو رشيد بن عيسى الذي كان أستاذا في إحدى الثانويات بالعاصمة، ثم اشتغل كموظف سام في وزارة الشؤون الدينية، وأما الرجل فهو ذلك المفكر الجليل مالك بن نبي الذي ترك في نفسي صورة نابضة عن التحاليل المنطقية والصرامة الرياضياتية، فلا تلتفت في حديثه إلى سجع أو قافية وإنما يشدك إليه سحر البيان وموازين الكلام.
ولما انتهيت من المرحلة الثانوية والتحقت بالجامعة المركزية، كان من توفيق الله تعالى لي ولجمع من الطلبة أنذاك أن تصادفت دراستنا بعد أشهر قلائل من دخولنا إلى الجامعة مع افتتاح مسجد الطلبة. وقد كان هذا الافتتاح فتحا لنا في خضم أجواء المذاهب الأيديولوجية ورياح الفتن والأهواء.
وتحقق ذلك الافتتاح على إثر توصية من مالك بن نبي رحمه الله لبعض تلاميذه الأوائل، فاجتمع نفر منهم وهم الذين كان لهم السبق في التواصل معه فآزروه وأيدوه وانتصروا لأفكاره ودعوته، وقاموا بتقديم طلب إلى الوزارة الوصية التي كان على رأسها أحمد طالب، وهم: عبد الوهاب حمودة وعبد العزيز بوليفة ومحمد جاب الله وعبد القادر حميتو، فاستجاب لهم بالقبول، وكان للأستاذ الجامعي صاحب كرسي علم التشريح في الطب سليمان طالب، موقف حاسم في الحصول على مقر المسجد بزاوية من قسم التشريح.
ومنذ ذلك الحين، تنوعت الأنشطة الثقافية والدينية داخل المسجد وخارجه، مثل الندوات والمحاضرات والمجلات ومعارض الكتاب وخاصة ملتقيات الفكر الإسلامي. وهكذا بزغ نور من الرحمان، بسداد في توجيهات أستاذنا وعمل أصحاب السبق إليه ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فعم فضل الله علينا وعلى طلاب الجامعة، بل على الوطن برمته بانتشار الفكر السليم والإصلاح القويم.
وفي ذلك المسجد تعرفت عن قرب إلى رشيد بن عيسى وهو الذي أخذ بيدي لحضور ندوة مالك بن نبي لأول مرة في بيته الكائن في أعالي شارع ديدوش مراد، وذلك بعد شهر أو شهرين من دخولي إلى الجامعة. هنالك تعرفت حقيقة إلى الأستاذ مالك بن نبي والتزمت بحضور ندواته الأسبوعية، فوجدت في محاضراته ما يشفي غليلي في التوافق بين العصرنة والأصالة، وهو ما بينه بالدليل والحجة في كتابه “الظاهرة القرآنية” الذي كتبه خصيصا لشباب المسلمين الذين يبحثون عن التوازن بين ثقافتهم الإسلامية وتكوينهم المعاصر.
وأذكر أنني حضرت أول حصة في أواخر سنة 1968 مع زميل كان يدرس معي وهو المرحوم ابن عزيز، فشعرت مما سمعت من تحاليل صارمة للأستاذ مالك بن نبي كأنني في مدرج قسم الرياضيات الذي كنت أتردد عليه في الدراسة. فلما فرغنا من تلك الحصة المسائية قلت مندهشا لصديقي: “ما رأيك في تلك التحاليل؟ ألست ترى أنها من الصرامة بمكان كأنما الرجل يقوم بالبراهين الرياضياتية في حديثه عن مسائل اجتماعية وحضارية، فيصيغها بعد التحليل والنمذجة في معادلات ويشرحها على الصبورة تماما كما نفعل في كلية العلوم؟ بل تراه في الدقة والتسلسل، يحملك على عقلانية ثابتة لا يتخللها مراء ولا مزحة، ولا يشوبها شيء من مظاهر الوجدان التي تفيض من القلوب عطفا وحنانا”. فتبسم صديقي لانطباعي الأولي من الرجل، وقد علمت من بعد ما اقتربت منه مليا أنه يجمع بين عقلانية ديكارت وحدسانية برغسون وموسوعية ابن خلدون.
وأذكر من بين ما أتذكر، أن وزير الشؤون الدينية أنذاك، مولود قاسم رحمه الله، قد اقترح على نخبة من الطلبة، أغلبهم كانوا يحضرون حلقة الأستاذ مالك بن نبي وكنت أحدهم، نتردد على الوزارة لمساعدة المشرفين على ملتقيات الفكر الإسلامي، فاقترح علينا بتقديم الحديث الديني الذي كانت قناة التلفزيون تبثه بعد الإفطار في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك. فتداولنا على القناة يوما بعد يوم بتقديم الحديث، وكان المرحوم عبد الوهاب يعتني بتهيئتنا قبل ذلك اعتناء الوالد لولده والراعي لرعيته، وكلما فرغ أحدنا من حصته كانت له مقابلة مع مالك بن نبي لاهتمامه الكبير بعروضنا، فكان يرشدنا وينصحنا،و إن صحح ما صدر عنا من هفوات في الشكل والمضامين فكثيرا ما كان يردد “ماعليهش، لا عليك، ستتحسن أكثر فأكثر”. فكان لنا ناصحا أمينا ومعلما قديرا ومربيا بكل معاني الرفق واللطافة.
م ينقطع مالك بن نبي من العطاء في مجال الفكر والثقافة والإصلاح والإرشاد، مثل التأليف وإلقاء المحاضرات في الجزائر وخارجها، وكانت آخر دراساته “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”، فكان ناصحا في حياته ولم ينس الأجيال من بعد مماته، إذ نظر في تطورات الأحداث بروية وعمق، فكتب عنها مُستشِفا بفراسة المؤمن لمآلاتها وعواقبها، وترك لمن خلفه كتابا عن ذلك لم ينشره أثناء حياته، وبين فيه أخطار “المسألة اليهودية”، فكأنما يتابع اليوم معنا ما يجري من إبادة جماعية لأهالي غزة على مرآى ومسمع من العالم، وهكذا تجري الأحداث المؤلمة على أمة اقرأ التي يقال عنها أنها لا تقرأ، فهلا تعود إلى كتابها فتقرأ، لعل ذلك يحدث أمرا، فتأتمر بقوله تعالى: “وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا” (الفرقان 52).
اللهم نصرك الذي وعدت به عبادك الصادقين المخلصين والصلاة والسلام على خاتم النبيين.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة