يعتقد الكثير ممن يتابع الأوضاع المأساوية في قطاع غزة هذه الأيام أنّ الكيان الصهيوني قد بلغ من الوحشية مبلغًا غير مسبوق في تجربة الاستعمار الاستيطاني، لكن الناظر في صفحات التاريخ القريب سيقف على بشاعة أخرى من الإرهاب الذي لا مثيل له في الزمن المعاصر، وهي تلك المتعلقة بجرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر.
لقد قتل جيش الكيان في أقلّ من شهر، منذ 7 أكتوبر الجاري، قرابة 8000 آلاف شهيد من المدنيين العزّل، مخلفا صورا مروعة من المجازر والانتهاك الصارخ لكل مواثيق القانون الدولي الإنساني، بينما العالم الغربي المتدثر بشعارات الليبرالية والحداثة لا يتفرج فقط مكبّل اليدين، بل إنه يدعم الجريمة بالموقف السياسي والعتاد الحربي وما يزعمون أنه حق الدفاع عن النفس.
لكن عندما نستحضر ما اقترفته فرنسا اللعينة في الجزائر خلال قرن وثلث، نجده أكثر شناعة ودمويّة في أحداث 08 ماي 1945 مثلا، يوم أبادت 45 ألف شهيد جزائري أعزل، خرجوا في مظاهرات سلمية، للمطالبة باستقلال بلادهم بموجب وعد فرنسي كاذب في سياق الحرب الأوروبية الثانية، ولكم أن تقارنوا وتتخيلوا كيف تمكّن جيش الاحتلال الفرنسي الملعون من تصفية كل هذا العدد بدم بارد في ذلك الزمن؟ إذا كانت جريمة “إسرائيل” حاليّا لم تبلغ حتّى خمس الضحايا الجزائريين رغم كل الوحشية التي تمارسها الآن على قطاع يعدّ الأكثر كثافة سكانية عالميّا.
وفي جريمة الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، قتلت فرنسا 12 ألف جزائري من عموم المواطنين المتظاهرين بالعصيّ والفؤوس دعمًا لثورة التحرير.
ولا نريد الوقوف عند كل المحطات الإرهابية لجيش الاحتلال الفرنسي في بلادنا طيلة 132 عاما أباد خلالها وفق الإحصاءات التاريخية 6 ملايين جزائري، منهم 1.5 مليون شهيد في فترة الثورة التحريرية وحدها.
وإذا كان الجيش الصهيوني يقصف اليوم المناطق الآهلة بالمدنيين مستعملا كل الأسلحة الفتاكة في مواجهة أبرياء وأطفال ونساء، مسنودا من الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن فرنسا مارست بدعم قوات الحلف الأطلسي ما هو أشد وأنكى في الجزائر بقصف قرى بكاملها وحرق البشر داخل المغارات والكهوف وإبادة عائلات عن بكرة أبيها وعزل الجزائريين في محتشدات ونفي الآلاف منهم إلى بقاع شتى من العالم، من دون الحديث عن الجرائم الحضارية في حق الهوية والمقدسات الدينية والتجهيل.
عندما نبرز هذه المؤشرات للمقارنة، فليس أبدا بهدف التقليل من جريمة الاحتلال الصهيوني في فلسطين ولا التهوين من خطورة المشروع الصهيوني العالمي، بل ليفهم الآخرون والمستلبون من بني جلدتنا: لماذا نكنّ كلّ الكره لفرنسا البغيضة؟ مقابل الإصرار على تسوية ملف الذاكرة كشرط أساسي في التوجه نحو المستقبل، ولتدرك كذلك الأجيال الناشئة حجم التضحيات الجسام التي بذلها أسلافهم في سبيل الحرية والكرامة، حتّى يقدروا أمانة الوطن والاستقلال حق قدرها، ويحفظوا لجيل التحرير منزلته المقدسة، خاصة ونحن نعيش نفحات الذكرى التاسعة والستين لثورة نوفمبر المجيدة.
كما أن النظر بأثر رجعي لجرائم الاحتلال في الجزائر يفتح أمام أعيننا فهم مواقفها اليوم من ممارسات الكيان الصهيوني في فلسطين، لأنّ “إسرائيل” وفرنسا وجهان لإرهاب واحد في ميزان التاريخ.
عندما يجرؤ إيمانويل ماكرون بكل وقاحة على نعت المقاومة الفلسطينية بأنها إرهاب فما خالف أجداده الإرهابيين من قبل، فقد وسموا آباءنا المجاهدين بنفس الفرية وأطلقوا عليهم نعوت “الفلاقة” والمتمردين الخارجين على القانون، وذلك ديدنهم مع كل حر ثائر في وجه الاستعمار لاسترجاع أرضه المغصوبة، أي أن موقف باريس من القضية الفلسطينية لا يعدو أن يكون تغطية حمقاء على جرائمها التاريخيّة في الجزائر وعموم المستعمرات الأفريقية، إذ لا يمكنها إدانة نفسها بالوقوف مع الحق الفلسطيني والاصطفاف ضد الكيان الصهيوني.
بالمقابل، فإنّ الرؤية التاريخية لتجربة الجزائريين المريرة مع الاستعمار الفرنسي الاستيطاني تجدد يقين الفلسطينيين في جدوى المقاومة المسلحة كخيار وحيد لتحرير الوطن، مهما كانت كلفتها باهظة في تقديرات المرجفين، أمّا أوهام السلام والتطبيع برعاية أمريكا، حامية “إسرائيل” الأولى، فلا شك أنّها سراب، مصيرها ما تكبده الشعب الجزائري في 08 ماي 1945، حينما أمِل في مكافأة فرنسية نظير مشاركة أبنائه في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، وهو ما شكّل المنعرج الحاسم في مسار الحركة الوطنية الجزائرية بالتحول جذريّا نحو التحضير للعمل المسلح الشامل.
ومثلما ظلت القضية الجزائرية حيّة في وجدان الجزائريين، عبر المقاومات الشعبية، رغم الاختلال الصارخ في موازين القوى العسكرية والمادية، تتبنّاها أجيال النضال الوطني، إلى غاية اندلاع الثورة الكبرى في 1954 والتي مكنت من بلوغ شاطئ الحرية، فإن المقاومة الفلسطينية ستحرر الأرض عاجلا أو آجلا، باستنزاف الكيان الصهيوني وحلفائه الدوليين اقتصاديا وأمنيّا وعسكريّا، أو خلط أوراق المنطقة كلها بحرب إقليمية تعيد ترتيب الأوضاع بصورة مختلفة، وإن لم تنجح في ذلك قريبًا، فلا أقلّ من إحياء القضية في وجدان الأمة الاسلامية العربية وحمايتها من مخططات التصفية التي يراد تمريرها تحت عناوين كثيرة خلال السنوات الأخيرة.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.