ساعة الحقيقة والسلطان العاري
ساعة الحقيقة والسلطان العاري
محي الدين عميمور
2023/10/24
حكاية قديمة تروى عن سلطان أقنعه محتالون بأنهم خاطوا له ثوبا لا يراه أحد، إلى أن صفعه طفل بالحقيقة واضحة وهو يصرخ في وجه الجميع: السلطان عارٍ.
ومنذ سنوات وسنوات وسنوات ونحن ندور وندور لنتفادى مواجهة الحقيقة التي تكاد تفقأ الأعين، ولا نمتلك شجاعة الاعتراف بحقيقة ما يعتقده العدو الصهيوني، وعبر عنه أخيرا صهيوني استضافته قناة عربية، قال لصحفيها: رئيسكم أكثر صهيونية مني.
ومعنى هذا بكل بساطة أن العدو الصهيوني يتصرف على أساس أن هناك قيادات عربية وإسلامية نافذة هي أحرص منه على التخلص من القضية الفلسطينية، التي تراها عبئا لم تعد تقدر على تحمله أمام شعبها بل وأمام نفسها.
وعندما تكون هذه هي نظرة العدو الصهيوني للقيادات العربية منذ سنوات وسنوات ندرك أن الحليف الحقيقي له هو قيادات لم تُخلق لمواقف الرجولة، وهي تطبق ذلك بشكل مطلق تعبيرا جاء في “تانغو” محمد عبد الوهاب، يقول :”ما أقصر العمر حتّى نضيعه في النضال”، وهو بالطبع ليس النضال الذي كان يقصده مطرب الأجيال أو الذي سخر منه يوما نزار قباني.
من هنا نفهم لماذا وصل الكثيرون في الوطن العربي إلى اليقين بأن ما حدث وما نعاني منه هو أن ما كانت تقوم به قيادات عربية، طوال سنوات وسنوات، كان مجرد التجاوب مع الشعارات الرنانة ومحاولة إسكات قيادات فلسطينية وغير فلسطينية بما يقترب من الرشوة، وهو ما كان من بعض نتائجه خلق الفتنة في أوساط المناضلين وتحريض بعضهم على بعض، وبهذا كان أولئك القياديون يلتقون عمليا مع القوى التي كانت تريد محو اسم فلسطين نهائيا من خارطة التاريخ، وبوجه خاص تلك القوى التي لم تعرف من التاريخ إلا هوامشه ونفاياته وسقطاته، أو تلك التي بنت وجودها على أساطير خرافية ذكرنا بها المفكر “روجي غارودي” في كتابه عن الصهيونية.
ولقد سبق أن قلت بأن أول وأهم أخطاء التعامل العربي مع قضية فلسطين هو دخول الجيوش الرسمية إلى حرب فلسطين، بتناقض مطلق مع ما كان يطالب به المجاهدون الفلسطينيون الذين أجهض العرب انتفاضتهم في الثلاثينيات، بعد أن لعب بهم “لورنس” بثورة كانت تمولها بريطانيا للقضاء على الخلافة العثمانية، التي لا يمكن إلا أن نسجل لها، مع عدم إنكار أخطائها، رفضها لتسليم أرض فلسطين للأشكيناز الغزاة.
ولا بد من أن نعترف بأن الأموال التي حبا الله بها الوطن العربي، وبغض النظر عن نزاهة النوايا أو تلوثها، كان الوسيلة الفاعلة والفعالة لإخصاء الرجولة العربية، بالرشوة المباشرة وشراء الذمم وخلق الرأسماليات الطفيلية، ثم تمويل شراء أسلحة كان منها كثيرٌ محدود الفعالية في مواجهة أسلحة العدوّ، ضمنت بها بعض القيادات المحلية سكوت البلدان المصنعة للطائرات الحربية والمدمرات البحرية وكل أنواع الصواريخ والبنادق الرشاشة عن بعض صور الحكم المُطلق، وخيّل للشعوب المغلوبة على أمرها أن تلك الأسلحة ستمكنها من انتزاع حقوقها من المستعمر القديم الجديد.
وهنا يمكن أن يقول مواطن ساخط على كل شيئ أن ما قاله المدعو “شارل جبور” من حزب سمير جعجع، وتاريخه معروف، هو نفس ما يفكر فيه بعض قادتنا بدون أن يجرؤا على التصريح به، وإن كان معظمهم يتصرف على أساسه.
وللتذكير، قال المذكور ملوّثا اللهجة اللبنانية الجميلة، وحسب ما روته “رأي اليوم” أمس : “طِلعْ خُلقنا منكُن، طلعْ دينّا منكم، على مناطقنا لا تقرّبوا، لا تشبهونا ولا نشبهكم، وجوهكم غريبة، اشكالكم بشعة غريبة، ما بدنا نتعرف عليكُن، انتم بمحل ونحن بمحل، لا يمكن أكون شريك مع هاي الناس، لا يمكن يكون مواطن مثلي مثلو بالوطن، لا يشبهني ولا اشبهه، ارفض ان يكون اخي بالمواطنة، ناس بشعين، دنسوا المنطقة”.
هنا ندرك بأننا كنا جميعا ضحية لعملية توزيع أدوار بالغة الخبث واسعة المجال متعددة الأشكال، بحيث يمكن القول بأن علينا الاعتراف بأننا كنا بسطاء إلى حدّ السذاجة، وأصبحنا، بدون أن ندري، متواطئين بشكل غير مباشر مع عدوّ الوطن والأمة.
فعندما صدر كتاب “لعبة الأمم ” في 1969 كان بعضنا يسخر من “مايلز كوبلاند”، ويؤكد أن الكتاب لا يختلف عن أساطير “جيمس بوند”، وكنا نصدقه، وبغض النظر عن أي توافق مع الأستاذ حسنين هيكل الذي ورد ذكره في كتاب الجاسوس الأمريكي.
وكان البعض يسخر منا نحن عندما كنا نُحذّرُ من “المؤامرة” متعددة الجوانب التي تستهدفنا، ويروح يُردد أن الحديث عن “مؤامرة” هو في حدّ ذاته …مؤامرة.
والغريب أننا لم نفهم، ونحن نعرف أن قناة إذاعية دُولية تدّعي الموضوعية والحياد كانت تديرها مجموعة عمل تضم مندوبي مخابرات وممثلين عن وزارة الخارجية، وكيف لم ندرك أن أهم وسائل الإعلام في العالم هي في يد الصهيونية، وكيف لم يكن كذبُ وزير خارجية الدولة الأقوى في نيويورك تحذيرا واضحا، في حين أن كذب “اليانكي” معروف منذ خليج “تونكن” الفيتنامي في 1964، ولم يكن تصريح رئيسه العجوز مؤخرا مجرد فلتة لسان عابرة.
هنا يدرك القارئ لماذا كنت أطالب مذ سنوات وسنوات بضرورة أن نقف جميعا وقفة نقد ذاتي نراجع فيها مسيرتنا بكل أبعادها، فالذي عشناه يثير تساؤلات وتساؤلات.
ومن حق أي مواطن سوِيّ أن “يظنّ” بأن العديد من التجمعات والتشكيلات السياسية التي عرفها الوطن العربي كانت مخترقة بشكل أو بآخر، وكانت محصلة ذلك تدمير الطاقات العربية عبر الصراعات الهامشية، وهذا هو بيت القصيد من هذه السطور.
باختصار شديد وعلى سبيل المثال لا الحصر.
كيف يمكن أن نفسر الصراع الذي عرفه الوطن العربي بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين ولا شك في قاعدتهما الوطنية، وكيف يمكن أن نفهم فشل الأحزاب الإسلامية في تقديم نموذج تنموي منسجم ومتكامل مع موقف وطني نضالي، وفيها رجال من خيرة الرجال، وكيف يمكن أن نحلل انحراف بعض أهم الأحزاب اليسارية في الوطن العربي، والتي كان من توجهاتها المضحكة إقناع عبد الكريم قاسم، وهو وطني بدون جدال، بقبول صفة “الزعيم الأوحد” نكاية في الرئيس المصري آنذاك، ثم كيف نجد تعليلا وطنيا منطقيا لتناقض حزب البعث العراقي مع حزب البعث السوري، وكيف ولماذا فشلت كل تجارب الوحدة العربية، ولماذا تجمد اتحاد المغرب العربي؟
وقبل ذلك، لماذا صمم الرئيس السادات، بعد العبور الرائع الذي قام به الجيش المصري، على دفع قواته شرقا رغم تحذير خيرة القادة العسكريين، وكيف اقتنع ياسر عرفات بما قدمه له أبو مازن في أوسلو، وما هو دور “كيسنجر” في كل ما حدث ويحدث؟.
ولماذا يواصل الوطن العربي التمسك بفكرة إنشاء الدولتين التي رفضتها إسرائيل منذ اليوم الأول
ولا أريد أن أواصل التغلغل في أحشاء الآلام العربية، فأنا، كما قال نزار، مريض بعروبتي.
وتبقى أصدق الكلمات هي تلك التي جاءت مؤخرا في صحيفة “ها آرتس” الإسرائيلية عن الفلسطينيين، وأرسل بها إليّ الصديق علي بن فليس، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق:
“إنهم فعلا أصحاب الأرض، ومَن غيرُ أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وبهذا الكبرياء والتحدي”.
ولقد كان هذا التعبير هو ما أدركته الشعوب العربية والإسلامية فانطلقت تزمجر غاضبة من تحالف الأخ مع العدوّ، وكان صفعة تذكير لقيادات كثيرة، عليها أن تتدارك الأمر قبل فوات الأوان، بعد أن أعطاها “طوفان الأقصى” فرصة التحلل من التزامات فُرضت في ظروف معينة أو من منطلقات ظرفية لا أرى ضرورة للتذكير بها .
ولقد فهم أحرار الأمة أن ما أطلق عليه مؤتمر السلام كان مؤتمرا للاستسلام المهين، بدا أن هدفه هو استرحام إسرائيل لكي تمنح بعض القيادات العربية فرصة الحفاظ على بعض ماء الوجه؟
لكن إسرائيل لم تمنحه شرف مشاركة شخصيات إسرائيلية ذات مستوًى ينسجم مع مستوى رؤساء الدول المشاركة، وكان لسان حالها يقول: اجتمعوا أو لا تجتمعوا فلا دور لغثاء السيل، ولا قيمة لما تقولونه أو تفعلونه لأن القرار هنا.
وبغض النظر عن كلمات ضخمة تعودنا عليها لم يصدر عن جامعة “الندامة”، فيما أعرف، تصريح يستنكر، ضمنيا على الأقل، تلك الاستهانة بقادة الأمة، بعد أن تفادت دعم المقاومة والترحم على شهداء غزة إثر انتهاء “قمة”، كان ممثلو الشمال فيها خير متحدث عن الكيان الصهيوني وأشرس متهجم على المقاومة.
ولم يبقَ إلا أن أقول إن علينا الآن أن نعيد النظر في كل شيئ؟